مَطْلَبٌ: فِي أَكْلِ الطِّيبِ، وَمَا خَشُنَ وَلُبْسِ الرَّقِيقِ، وَالْغَلِيظِ مِنْ وَجْهِ حِلٍّ، وَأَنَّ تَرْكَ الطَّيِّبَاتِ لَيْسَ مِنْ الزُّهْدِ فِي شَيْءٍ
وَكُلْ طَيِّبًا أَوْ ضِدَّهُ وَالْبَسْ الَّذِي ... تُلَاقِيهِ مِنْ حِلٍّ وَلَا تَتَقَيَّدْ
(وَكُلْ) أَيُّهَا الْعَبْدُ الْمُقْتَفِي سُنَنَ نَبِيِّك الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (طَيِّبًا) مِنْ أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ كَاللَّحْمِ وَالسَّمْنِ، وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ، وَالْخُبْزِ الرَّقِيقِ وَأَنْوَاعِ الْحَلْوَى وَلَا تَتْرُكْهُ تَزَهُّدًا فَلَيْسَ تَرْكُ الطَّيِّبَاتِ مِنْ الزُّهْدِ فِي شَيْءٍ، نَعَمْ لَا يَنْبَغِي الِانْهِمَاكُ فِي اللَّذَّاتِ كَمَا قَدَّمْنَا (أَوْ) كُلْ (ضِدَّهُ) أَيْ ضِدَّ الطَّيِّبِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا خَشُنَ مِنْ الْعَيْشِ لَا الْخَبَائِثُ، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ (وَالْبَسْ الَّذِي تُلَاقِيهِ) مِنْ أَنْوَاعِ اللِّبَاسِ مِنْ الرَّقِيقِ النَّاعِمِ، وَالْغَلِيظِ الْخَشِنِ حَيْثُ كَانَ الطَّيِّبُ وَضِدُّهُ مِنْ الْمَأْكَلِ، وَالْمَشْرَبِ، وَالْمَلْبَسِ (مِنْ) وَجْهِ (حِلٍّ) .
وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ مُحَرَّمٍ فَلَا يَسُوغُ لَك أَنْ تَأْكُلَ وَلَا تَلْبَسَ مِنْهُ، فَإِنَّ وَبَالَهُ عَلَيْك وَعَاقِبَتَهُ الْوَخِيمَةَ بَيْنَ يَدَيْك فَلَا يَسُوغُ لَك أَنْ تَعْصِيَ مَوْلَاك وَتُرْضِيَ نَفْسَك وَتُطِيعَ هَوَاك (وَلَا تَتَقَيَّدْ) بِنَوْعٍ فَقَطْ بِأَنْ لَا تَأْكُلَ إلَّا نَاعِمًا طَيِّبًا، أَوْ لَا تَلْبَسَ إلَّا نَاعِمًا رَقِيقًا وَعَكْسُهُ، فَإِنَّ سِيرَةَ الْمُصْطَفَى أَكْمَلُ السِّيَرِ، وَهُوَ خُلَاصَةُ الْعَالَمِ وَنِهَايَةُ الْبَشَرِ. وَكَانَ يَكُونُ تَارَةً هَكَذَا وَتَارَةً هَكَذَا.
جَوَابُ الْإِمَامِ ابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ قَوْلِ بَعْضِ الزُّهَّادِ لَا آكُلُ؛ لِأَنَّ نَفْسِي تَشْتَهِيهِ
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ (صَيْدِ الْخَاطِرِ) : بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ زُهَّادِ زَمَانِنَا أَنَّهُ قُدِّمَ إلَيْهِ طَعَامٌ فَقَالَ: لَا آكُلُ فَقِيلَ لَهُ لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّ نَفْسِي تَشْتَهِيهِ وَأَنَا مُنْذُ سِنِينَ مَا بَلَغَتْ نَفْسِي مَا تَشْتَهِي فَقُلْت: لَقَدْ خَفِيَتْ طَرِيقُ الصَّوَابِ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ وَسَبَبُ خَفَائِهَا عَدَمُ الْعِلْمِ. أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَا وَلَا أَصْحَابُهُ، وَقَدْ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَأْكُلُ لَحْمَ الدَّجَاجِ وَيُحِبُّ الْحَلْوَى، وَالْعَسَلَ وَدَخَلَ فَرْقَدُ السِّنْجِيُّ عَلَى الْحَسَنِ، وَهُوَ يَأْكُلُ الْفَالُوذَجَ فَقَالَ: يَا فَرْقَدُ مَا تَقُولُ فِي هَذَا؟ فَقَالَ: لَا آكُلُهُ وَلَا أُحِبُّ مَنْ أَكَلَهُ فَقَالَ الْحَسَنُ: لُعَابُ النَّحْلِ بِلُبَابِ الْبُرِّ مَعَ سَمْنِ الْبَقَرِ هَلْ يَعِيبُهُ مُسْلِمٌ؟ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ فَقَالَ: إنَّ لِي جَارًا لَا يَأْكُلُ الْفَالُوذَجَ فَقَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: يَقُولُ لَا أُؤَدِّي شُكْرَهُ فَقَالَ: إنَّ جَارَك جَاهِلٌ وَهَلْ يُؤَدِّي شُكْرَ الْمَاءِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute