للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْقُدْسِ وَأَقَامَ بِهَا زَمَانًا مُلَازِمًا عَلَى الدُّرُوسِ، وَكَانَ عَالِمًا عَامِلًا مُتَقَلِّلًا مِنْ الدُّنْيَا، كَثِيرَ التَّعَبُّدِ، طَوِيلَ التَّهَجُّدِ، انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُ الْقُدْسِ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ نَابُلُسَ، وَكَانَ لَا يَجْتَمِعُ بِالْأُمَرَاءِ، وَلَا بِالْقُضَاةِ مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِهِ، وَكَانَ إمَامَ السَّادَةِ الْحَنَابِلَةِ وَمُفْتِيهِمْ، وَحَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي اللُّطْفِ وَحْشَةٌ وَمُنَافَرَةٌ؛ لِأَنَّ الْخُرَيْشِيَّ لَمَّا رَأَى اسْتِحْبَابَ الْعَذْبَةِ وَالتَّلَحِّي أَرْخَى لَهُ عَذْبَةً وَتَلَحَّى، وَكَانَ لَهُ تَلَامِذَةٌ وَمُحِبُّونَ يَعْتَقِدُونَهُ وَيَقْتَدُونَ بِهِ، فَاقْتَدَوْا بِهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى أَوْلَادِ الْمَشَايِخِ، وَصَارَ بَعْضُ السُّفْلِ يَضْحَكُونَ مِنْهُ وَمِنْهُمْ، وَيَأْمُرُونَهُمْ بِتَرْكِ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ بِهِمْ، فَأَفْتَى ابْنُ أَبِي اللُّطْفِ بِأَنَّ التَّلَحِّيَ بِدْعَةٌ وَيُعَزَّرُ مُتَعَاطِيهِ، فَتَسَلَّطَ السُّفْلُ وَالسُّفَهَاءُ عَلَى الْمُتَلَحِّيِينَ يُؤْذُونَهُمْ وَيُؤْذُونَ الشَّيْخَ، وَيَقُولُونَ: هُوَ مُبْتَدِعٌ، وَسَعَوْا فِي مَنْعِهِ مِنْ الْوَعْظِ، فَتَحَمَّلَ الْأَذَى وَصَبَرَ فَلَمْ يَمْضِ إلَّا مُدَّةً يَسِيرَةً حَتَّى مَاتَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي اللُّطْفِ بِدَاءِ السَّكْتَةِ، فَقَالَ النَّاسُ: هَذَا مِنْ بَرَكَةِ الْخُرَيْشِيِّ وَإِنْكَارِهِ عَلَى السُّنَّةِ.

فَانْظُرْ - رَحِمَك اللَّهُ - بِعَيْنِ الِاعْتِبَارِ، وَاجْلُ ذِكْرَكَ بِالتَّدَبُّرِ وَالِافْتِكَارِ، وَانْظُرْ فِي حِكْمَةِ الْحَكِيمِ الْقَهَّارِ، كَيْف جَازَى اللُّطْفِيَّ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ كَمَا هِيَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَهْلِ مِلَلِهِ.

فَإِنَّهُ لَمَّا مَنَعَ الْخُرَيْشِيُّ مِنْ نَشْرِ أَعْلَامِ سُنَّةِ الْمُصْطَفَى، وَسَكَّتَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَتَفَوَّهَ هُوَ بِأَذِيَّةِ هَذَا الْوَلِيِّ أَسْكَتَهُ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَتَفَوَّهَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ.

وَلَمَّا أَمَاتَ سُنَّةَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَاتَهُ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ.

وَلَمَّا طَوَى بِفَتْوَاهُ أَعْلَامَ هَذِهِ السُّنَّةِ وَدَفَنَهَا جَفَّتْ يَدُهُ وَطُوِيَ ذِكْرُهُ، وَدُفِنَ جِسْمُهُ فِي صَدْعٍ مِنْ الْأَرْضِ جَزَاءً وِفَاقًا.

عِيَاذًا بِك اللَّهُ مِنْ مَكْرِك.

وَالْتِجَاءً إلَيْك مِنْ التَّجَرِّي عَلَيْك.

وَاعْتِصَامًا بِك مِنْ تَحْلِيلِ حَرَامٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ.

يَا ذَا الْعَفْوِ وَالْأَفْضَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ.

وَقَدْ عَلِمْت مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا اعْتِبَارَ بِعُرْفٍ حَادِثٍ بَلْ بِعُرْفٍ قَدِيمٍ وَاَللَّهُ هُوَ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ.

مَطْلَبٌ: الِاقْتِعَاطُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ

الْعَاشِرُ: الِاقْتِعَاطُ هُوَ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ فَقَافٍ سَاكِنَةٍ فَمُثَنَّاةٍ فَوْقُ مَكْسُورَةٍ فَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ فَأَلِفٍ فَطَاءٍ مُهْمَلَةٍ، أَنْ يَتَعَمَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْنِيكٍ كَمَا تَقَدَّمَ.

قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي نِهَايَتِهِ: فِيهِ أَيْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ نَهَى عَنْ الِاقْتِعَاطُ هُوَ أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>