للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بَرِئْت مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ كَانَ ذَا الَّذِي ... أَتَاك بِهِ الْوَاشُونَ عَنِّي كَمَا قَالُوا

وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْك غَرِيَّةً ... بِهَجْرِي تَوَاصَوْا بِالنَّمِيمَةِ وَاحْتَالُوا

فَقَدْ صِرْت أُذُنًا لِلْوُشَاةِ سَمِيعَةً ... يَنَالُونَ مِنْ عِرْضِي وَلَوْ شِئْت مَا نَالُوا

فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: مَنْ يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ؟ قَالَ: قَاضٍ بِدِمَشْقَ، فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِإِحْضَارِهِ فَأُشْخِصَ وَجَلَسَ الْمَأْمُونُ لِلشُّرْبِ وَأُحْضِرَ عَلَوِيَّةَ وَدَعَا بِالْقَاضِي، فَقَالَ لَهُ: أَنْشِدْنِي قَوْلَهُ بَرِئْت مِنْ الْإِسْلَامِ الْأَبْيَاتَ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ أَبْيَاتٌ قُلْتهَا مِنْ أَرْبَعِينَ سَنَةٍ وَأَنَا صَبِيٌّ وَاَلَّذِي أَكْرَمَك بِالْخِلَافَةِ، وَوَرَّثَك مِيرَاثَ النُّبُوَّةِ مَا قُلْت شِعْرًا مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةٍ إلَّا فِي زُهْدٍ أَوْ فِي عِتَابِ صَدِيقٍ، فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَجَلَسَ، فَنَاوَلَهُ قَدَحَ نَبِيذٍ كَانَ فِي يَدِهِ فَأَرْعَدَ وَبَكَى، وَأَخَذَ الْقَدَحَ مِنْ يَدِهِ، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا غَيَّرْت الْمَاءَ قَطُّ بِشَيْءٍ مِمَّا يُخْتَلَفُ فِي تَحْلِيلِهِ، فَقَالَ لَعَلَّك تُرِيدُ نَبِيذَ الزَّبِيبِ، فَقَالَ لَا وَاَللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَخَذَ الْمَأْمُونُ الْقَدَحَ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَوْ شَرِبْت شَيْئًا مِنْ هَذَا لَضَرَبْت عُنُقَك. لَقَدْ ظَنَنْت أَنَّك صَادِقٌ فِي قَوْلِك كُلِّهِ وَلَكِنْ لَا يَتَوَلَّى إلَيَّ الْقَضَاءَ رَجُلٌ بَدَأَ فِي قَوْلِهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْإِسْلَامِ، انْصَرِفْ إلَى مَنْزِلِك، وَأَمَرَ عَلَوِيَّةَ فَغَيَّرَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَجَعَلَ مَكَانَهَا حُرِمْت مَكَانِي مِنْك وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَقَوْلُ النَّاظِمِ (بَغِيضٍ) صِفَةٌ لِوَاشٍ (وَ) يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ فِي خَلْوَتِهِ أَيْضًا مِنْ (حُسَّدِ) جَمْعُ حَاسِدٍ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ.

وَلَمَّا بَيَّنَ لَك هَذِهِ الْفَوَائِدَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الْعُزْلَةِ وَأَضْعَافِ أَضْعَافِهَا مِنْ الْفَوَائِدِ مِمَّا لَمْ يُنَبِّهُ عَلَيْهِ أَمَرَك بِهَا مُؤَكِّدًا لِمَا رَغَّبَ فِيهِ فَقَالَ:

مَطْلَبٌ: فِي مُلَازَمَةِ الْبُيُوتِ عِنْدَ الْفِتْنَةِ:

فَكُنْ حِلْسَ بَيْتٍ فَهُوَ سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ ... وَحِرْزُ الْفَتَى عَنْ كُلِّ غَاوٍ وَمُفْسِدِ

(فَكُنْ) أَيْ إنْ كُنْت فَهِمْت مَا أَشَرْتُ بِهِ إلَيْك، وَأَهْدَيْته عَلَيْك مِنْ هَذِهِ الْمَنَاقِبِ وَالْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ بِالِاخْتِلَاءِ عَنْ النَّاسِ، فَكُنْ أَنْتَ (حِلْسَ) أَيْ كُنْ فِي اخْتِلَائِك كَحِلْسِ (بَيْتٍ) لَا تُفَارِقْهُ وَلَا تَبْرَحْ عَنْهُ بَلْ الْزَمْهُ (فَهُوَ) أَيْ صَنِيعُك مِنْ لُزُومِك لِبَيْتِك (سِتْرٌ لِعَوْرَةٍ) وَهِيَ كُلُّ مَا يُسْتَحَى مِنْهُ إذَا ظَهَرَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>