أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَبَ يَوْمًا فَقَالَ: إيَّاكُمْ، وَالْبِطْنَةَ، فَإِنَّهَا مُكَسِّلَةٌ عَنْ الصَّلَاةِ مُؤْذِيَةٌ لِلْجِسْمِ وَعَلَيْكُمْ بِالْفَضْلِ فِي قُوَّتِكُمْ، فَإِنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الْأَشَرِّ وَأَصَحُّ لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى عَلَى الْعِبَادَةِ، وَإِنَّ امْرَأً لَنْ يَهْلِكَ حَتَّى يُؤْثِرَ شَهْوَتَهُ عَلَى دِينِهِ.
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: خَصْلَتَانِ يُقْسِيَانِ الْقَلْبَ: كَثْرَةُ الْكَلَامِ وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ. وَرَوَى الْمَرْوَزِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ قَلَّ طَعْمُهُ فَهِمَ وَأَفْهَمَ وَصَفَا وَرَقَّ، وَإِنَّ كَثْرَةَ الطَّعَامِ لَيُثْقِلُ صَاحِبَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا يُرِيدُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْخَوَّاصُ: حَتْفُك فِي شِبَعِك وَحَظُّك فِي جُوعِك إذَا أَنْتَ شَبِعْت ثَقُلْت فَنِمْت اسْتَمْكَنَ مِنْك الْعَدُوُّ فَجَثَمَ عَلَيْك وَإِذَا أَنْتَ تَجَوَّعْت كُنْت لِلْعَدُوِّ بِمَرْصَدٍ.
وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ سَعِيدٍ: إنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُعَيَّرُ بِالْبِطْنَةِ كَمَا يُعَيَّرُ بِالذَّنْبِ يَعْمَلُهُ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: مَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَطْنُهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ وَأَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ. وَكَانَ يُقَالُ: لَا تَسْكُنُ الْحِكْمَةُ مَعِدَةً مَلْأَى.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ مَا شَبِعْت مُنْذُ خَمْسِينَ سَنَةً، وَقَالَ مَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْبَعَ الْيَوْمَ مِنْ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَبِعَ مِنْ الْحَلَالِ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْحَرَامِ.
فَانْظُرْ رَحِمَك اللَّهُ هَذِهِ الْهِمَمَ الْعَلِيَّةَ، وَالْأَنْفُسَ الزَّكِيَّةَ، وَنَحْنُ فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ، نَتَضَلَّعُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْذَارِ، وَلَا نَتَزَوَّدُ لِتِلْكَ الدَّارِ. عِيَاذًا بِك اللَّهُمَّ مِنْ مُرِّ الْأَقْدَارِ، وَالْخُلُودِ إلَى نَيْلِ الشَّهَوَاتِ الْمُوجِبَةِ إلَى دُخُولِ النَّارِ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الرَّحِيمِ الْغَفَّارِ. .
مَطْلَبٌ: يَحْرُمُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْلِيلِ الطَّعَامِ
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ فِي الْمُبَالَغَةِ مِنْ التَّقْلِيلِ فِي الطَّعَامِ.
اعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ بَالَغَ فِي تَقْلِيلِ الْغِذَاءِ فَأَضَرَّ بِبَدَنِهِ أَوْ قَصَّرَ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ لِحَقِّ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ كَالتَّكَسُّبِ لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِلَّا يَضُرُّ بِبَدَنِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا قَصَّرَ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ كُرِهَ لَهُ إنْ خَرَجَ مِنْ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ.
وَرَوَى الْخِلَالُ فِي جَامِعِهِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ قَالَ: مَا يُعْجِبُنِي سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ