فَلَمَّا كَانَ الصِّيَامُ مُجَرَّدَ تَرْكِ حُظُوظِ النَّفْسِ وَشَهَوَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي جُبِلَتْ عَلَى الْمِيلِ إلَيْهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَضَافَهُ سُبْحَانَهُ لِنَفْسِهِ، مَعَ أَنَّ الْأَعْمَالَ كُلَّهَا لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُ تَرَكَ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: طُوبَى لِمَنْ تَرَكَ شَهْوَةَ حَاضِرِهِ لِمَوْعِدٍ غُيِّبَ لَمْ يَرَهُ.
مَطْلَبٌ: التَّقَرُّبُ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَهَجْرِ اللَّذَّاتِ.
فِيهِ فَوَائِدُ وَفِي التَّقَرُّبِ بِتَرْكِ الشَّهَوَاتِ وَهَجْرِ اللَّذَّاتِ فَوَائِدُ: مِنْهَا كَسْرُ النَّفْسِ فَإِنَّ الِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ تَحْمِلُ النَّفْسَ عَلَى الْأَشَرِ وَالْبَطَرِ وَالْغَفْلَةِ، وَمِنْهَا تَخَلِّي الْقَلْبِ لِلْفِكْرِ وَالذِّكْرِ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الشَّهَوَاتِ وَالِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ، قَدْ يُقَسِّي الْقَلْبَ وَيُعْمِيهِ وَيَحُولُ بَيْن الْعَبْدِ وَبَيْنَ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ وَيَسْتَدْعِي الْغَفْلَةَ، وَخُلُوَّ الْبَاطِنِ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يُنَوِّرُ الْقَلْبَ وَيُوجِبُ رِقَّتَهُ وَيُزِيلُ قَسْوَتَهُ، وَمِنْهَا الِاشْتِغَالُ بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْهَا مِنْ دِرَاسَةِ الْعِلْمِ وَالْإِمْعَانِ فِي تَفَهُّمِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَمِنْهَا الْإِعْرَاضُ وَالنَّزَاهَةُ عَنْ اشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِمَا هُوَ صَائِرٌ إلَى النَّجَاسَةِ فَكُلَّمَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ حَمْلُهُ لِلنَّجَاسَةِ أَكْثَرُ، وَغَايَةُ الِالْتِذَاذِ بِذَلِكَ فِي مِقْدَارِ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ يَسْتَوِي طَيِّبُهُ وَخَبِيثُهُ. فَمَنْ رَاقَبَ هَذِهِ الْحَالَةَ تَرَكَ الِانْهِمَاكَ فِي اللَّذَّاتِ لَا مَحَالَةَ.
وَلَمَّا كَانَ فِي هَجْرِ اللَّذَّاتِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ قَمْعٌ لِلنَّفْسِ وَهَوَاهَا. قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
مَطْلَبٌ: فِي ذَمِّ الْهَوَى وَأَنَّ عِزَّ النُّفُوسِ فِي مُخَالَفَةِ هَوَاهَا:
وَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُّفُوسِ اعْتِزَازُهَا ... وَفِي نَيْلِهَا مَا تَشْتَهِي ذُلٌّ سَرْمَدُ
(وَفِي قَمْعِ) أَيْ صَرْفِ (أَهْوَاءِ) جَمْعُ هَوًى بِالْقَصْرِ مَيْلُ (النُّفُوسِ) إلَى الشَّيْءِ وَفِعْلُهُ هَوَى يَهْوَى هَوًى مِثْلُ عَمِي يَعْمَى عَمًى، وَأَمَّا هَوًى بِالْفَتْحِ فَهُوَ السُّقُوطُ وَمَصْدَرُهُ الْهُوِيُّ بِالضَّمِّ، وَيُطْلَقُ الْهَوَى عَلَى نَفْسِ الْمَحْبُوبِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
إنَّ الَّتِي زَعَمْت فُؤَادَك مَلَّهَا ... خَلَقَتْ هَوَاك كَمَا خَلَقْت هَوًى لَهَا
وَيُقَالُ هَذَا هَوَى فُلَانٍ وَفُلَانَةُ هَوَاهُ أَيْ مُهْوِيَتُهُ وَمَحْبُوبَتُهُ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ الْيَمَانِينَ مُصْعِدٌ ... جَنُوبًا وَجُثْمَانِي بِمَكَّةَ مُوثَقُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute