وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْحُبِّ الْمَذْمُومِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: ٤٠] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: ٤١] .
وَيُقَالُ إنَّمَا سُمِّيَ هَوًى؛ لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ إلَى النَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي مُخَالَفَةِ النُّفُوسِ لِهَوَاهَا (اعْتِزَازُهَا) أَيْ قُوَّتُهَا وَمَنْعَتُهَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَجُنُودِهِ وَعَدَمُ ذُلِّهَا، فَلَمَّا قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ بِمِقْمَعَةِ الْمُتَابَعَةِ وَضَرَبَهَا بِسِيَاطِ الِاقْتِدَاءِ، وَصَرَفَهَا بِزِمَامِ التَّقْوَى، حَصَلَ لَهَا الْعِزُّ وَالِامْتِنَاعُ، وَالْقُوَّةُ وَالِارْتِفَاعُ، بِحُسْنِ الِاتِّبَاعِ، وَمُخَالَفَةِ الِابْتِدَاعِ. يُقَالُ قَمَعَهُ كَمَنَعَهُ ضَرَبَهُ بِالْمِقْمَعَةِ وَقَهَرَهُ وَذَلَّلَهُ كَأَقْمَعَهُ. وَيُقَالُ عَزَّ عِزًّا وَعِزَّةً بِكَسْرِهِمَا وَعِزَازَةً صَارَ عَزِيزًا كَتَعَزَّزَ وَقَوِيَ بَعْدَ ذُلِّهِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عِدَّةُ آيَاتٍ فِي ذَمِّ الْهَوَى كَقَوْلِهِ: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} [الفرقان: ٤٣] ، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: ٤٠] .
وَقَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَفْسِيرُهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ مِنْ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ، وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: ٤٠] : الْمُرَادُ بِهَذَا الْهَوَى مَا مُنِعَ مِنْهُ وَحُرِمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَفْتَقِرُ إلَى تَرْكِهِ فِي أَوْقَاتٍ لِئَلَّا يَحْمِلَ إلَى مَا يُؤْذِي، وَالْكُلُّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِيَاضَةٍ؛ وَالْآدَمِيُّ كَالْفَرَسِ إذَا أَنْتَجَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رَائِضٍ، فَإِنْ كَانَ عَرَبِيًّا حَرَّكَتْ الرِّيَاضَةُ أَصْلَهُ الْجَيِّدَ فَظَهَرَ جَوْهَرُهُ، كَمَا أَنَّ الْمَسَّ يُؤَثِّرُ فِي الْفُولَاذِ، وَإِنْ كَانَ كَوْدَنًا مَنَعَتْ بَعْضُ أَخْلَاقِهِ الرَّدِيئَةِ، كَمَا أَنَّ الْحَدِيدَ قَدْ يُقْطَعُ، وَكَذَلِكَ بَنُو آدَمَ، فَمِنْهُمْ مَنْ خُلِقَ عَلَى صِفَةٍ حَسَنَةٍ تُؤَدِّبُهُ نَفْسُهُ وَيُقَوِّمُهُ عَقْلُهُ، فَتَأْتِي الرِّيَاضَةُ بِتَمَامِ التَّقْوِيمِ وَكَمَالِ التَّعْلِيمِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ ذَلِكَ فِي جَوْهَرِهِ فَيَفْتَقِرُ إلَى زِيَادَةِ رِيَاضَةٍ، وَيَتْرُكُ الْمَحْبُوبَاتِ عَلَى كُرْهٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ رِيَاضَةِ هَذَا لِيُفَارِقَ الْمُؤْذِيَ كَيْفَ اتَّفَقَ. وَالرِّيَاضَةُ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، فَتُؤَثِّرَ فِي حَقِّ الشَّرَهِ تَقْلِيلُ الْمَطْعَمِ إلَى أَنْ يَعُودَ إلَى حَالَةِ الِاعْتِدَالِ، وَأَخْذِ مَا يَصْلُحُ، وَلَا بُدَّ مِنْ إعْطَاءِ النَّفْسِ مَا يُوَافِقُهَا فِي مَصَالِحِهَا، فَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا» وَكَذَلِكَ الشَّرَهُ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute