النَّاسُ إنِّي يَوْمٌ جَدِيدٌ، وَإِنِّي عَلَى مَا يُعْمَلُ فِي شَهِيدٌ، وَإِنِّي لَوْ قَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ لَمْ أَرْجِعْ إلَيْكُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَإِيَّاكَ وَالْغَبَنَ وَالتَّمَادِي فِي الْكَسَلِ وَهَوَى النَّفْسِ (بَلْ اجْهَدْ) فِي فِكَاكِهَا وَخَلَاصِهَا مِنْ قُيُودِ الْأَقْفَاصِ.
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَبْصِرَتِهِ: الْإِنْسَانُ أَسِيرٌ فِي الدُّنْيَا يَسْعَى فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ، لَا يَأْمَنُ شَيْئًا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ عَلَيْهِ فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفِي لِسَانِهِ وَفِي جَوَارِحِهِ كُلِّهَا.
تَجَهَّزِي بِجِهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ ... يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا
وَسَابِقِي بَغْتَةَ الْآجَالِ وَانْكَمِشِي ... قَبْلَ اللِّزَامِ فَلَا مَلْجَا وَلَا غَوْثَا
وَلَا تَكَدِّي لِمَنْ يَبْقَى وَتَفْتَقِرِي ... إنَّ الرَّدَى وَارِثُ الْبَاقِي وَمَا وُرِثَا
وَاخْشَيْ حَوَادِثَ صَرْفِ الدَّهْرِ فِي مَهَلٍ ... وَاسْتَيْقِظِي لَا تَكُونِي كَاَلَّذِي بَحَثَا
عَنْ مُدْيَةٍ كَانَ فِيهَا قَطْعُ مُدَّتِهِ ... فَوَافَتْ الْحَرْثَ مَحْرُوثًا كَمَا حَرَثَا
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ ... أَوْ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعِثَا
وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثَا
فِي قَعْرِ مُوحِشَةٍ غَبْرَاءَ مُقْفِرَةٍ ... يُطِيلُ تَحْتَ الثَّرَى فِي جَوْفِهَا اللَّبَثَا
فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يُبَادِرَ إلَى مَا فِيهِ خَلَاصُ نَفْسِهِ مِنْ الْهَلَاكِ، وَيَفُكُّهَا مِنْ الْقُيُودِ وَالشِّرَاكِ، وَلَا يَرْكَنُ إلَى الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، وَلَا يَسْكُنُ إلَى تَخَيُّلَاتِهَا وَتَمْوِيهَاتِهَا، فَمَا هِيَ إلَّا سُمُّ الْأَفَاعِي، وَأَهْلُهَا مَا بَيْنَ مَنْعِيٍّ وَنَاعِي، فَلِذَا قَالَ النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
مَطْلَبٌ: مَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى
فَمَنْ هَجَرَ اللَّذَّاتِ نَالَ الْمُنَى وَمَنْ ... أَكَبَّ عَلَى اللَّذَّاتِ عَضَّ عَلَى الْيَدِ
(فَمَنْ) أَيْ أَيُّ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ أَوْ امْرَأَةٍ مُؤْمِنَةٍ (هَجَرَ اللَّذَّاتِ) أَيْ صَرَمَهَا وَلَمْ يَلْوِ إلَيْهَا عِنَانَهُ، وَلَمْ يَشْغَلْ بِهَا جَنَانَهُ، وَلَا لَطَّخَ بِهَا لِسَانَهُ، وَلَا نَافَسَ فِي اكْتِسَابِهَا، وَلَمْ يَنْكَبَّ عَلَى انْتِهَابِهَا. بَلْ رَفَضَهَا وَثَنَى عَنْهَا الْعِنَانَ، وَلَهَا شَنَى، وَمَالَ عَنْهَا وَانْحَنَى (نَالَ) أَيْ أَصَابَ (الْمُنَى) أَيْ مُنَاهُ بِمَعْنَى تَمْنِيَتَهُ يَعْنِي مَا يَتَمَنَّاهُ وَيَطْلُبُهُ مِنْ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فِي دَارِ الْخُلْدِ وَالتَّكْرِيمِ، وَمِنْ