للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَزَهِّدِينَ فَضَعَفُوا عَنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَذَلِكَ مِنْ أَوَامِرِ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّمَا قَدْ لَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ الْحَلَالَ فِي وَقْتٍ فَيَصْبِرَ، وَقَدْ يُؤْثِرُ. فَأَمَّا الدَّوَامُ عَلَى مَا يُضْعِفُ الْبَدَنَ وَيُوجِبُ تَنَشُّفَ الرُّطُوبَاتِ وَيُبْسَ الدِّمَاغِ فَيُخْرِجُ إلَى الْخَيَالَاتِ الْفَاسِدَةِ فَذَاكَ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْجُهَّالُ، وَأَمَّا تَرْكُ الشَّهَوَاتِ فَقَدْ اعْتَمَدَهُ خَلْقٌ مِنْ الصَّالِحِينَ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ كَثْرَةَ الْأَكْلِ وَلَا يَحْتَمِلُهَا كَسْبُ الْوَرَعِ.

عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ مُطْلَقًا إنَّمَا يَتْرُكُ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ التَّرَفِ مِنْ أَلْوَانِ الْأَطْعِمَةِ وَإِلَّا فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّ الْحَلْوَى، وَالْعَسَلَ وَأَكْلَ الدَّجَاجِ. فَأَمَّا أَهْلُ الْغَفْلَةِ فَيَأْكُلُونَ شَرَهًا وَلَا يَنْظُرُونَ فِي حِلِّ الْمَطْعَمِ وَيَتَعَدَّى أَمْرُهُمْ إلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْتَنِبُوا أُمَّ الْخَبَائِثِ» .

وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِشَامٍ النَّصِيبِيِّ قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ يُكَنَّى أَبَا عَمْرٍو وَكَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ انْتَبَهَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، وَهُوَ فَزِعٌ فَقِيلَ لَهُ: مَالَك؟ فَقَالَ: أَتَانِي آتٍ فِي مَنَامِي هَذَا وَرَدَّدَ عَلَيَّ هَذَا الْكَلَامَ حَتَّى حَفِظْته، وَهُوَ:

جَدَّ بِكَ الْأَمْرُ أَبَا عَمْرٍو ... وَأَنْتَ مَعْكُوفٌ عَلَى الْخَمْرِ

تَشْرَبُ صَهْبَاءَ صُرَاحِيَّةٍ ... سَالَ بِك السَّيْلُ وَمَا تَدْرِي

فَلَمَّا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ مَاتَ فَجْأَةً، ثُمَّ أَنْشَدَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:

تَلُومُ لَمَّا خَلَتْ أَمَامَهْ ... قُلْت لَهَا لَا وَلَا كَرَامَهْ

كِسْرَةُ خُبْزٍ وَقَعْبُ مَاءٍ ... وَسَحْقُ ثَوْبٍ مَعَ السَّلَامَهْ

خَيْرٌ مِنْ الْعَيْشِ فِي نَعِيمٍ ... يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ نَدَامَهْ

وَلَوْ أَخَذْنَا نَتَكَلَّمُ عَلَى الْجُوعِ وَضِدِّهِ، وَمَقْبُولِ مَا قِيلَ فِيهِ وَرَدِّهِ لَمَلَّ الطَّبْعُ.

وَخَرَجْنَا عَنْ الْوَضْعِ لَكِنْ فِي الْإِشَارَةِ. مَا يُغْنِي عَنْ بَسْطِ الْعِبَارَةِ.

مَطْلَبٌ: مَنْ أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَاسْتَمْتَعَ بِهَا نَقَصَتْ دَرَجَاتُهُ

(الثَّالِثُ) : قَالَ عُلَمَاؤُنَا مِنْهُمْ صَاحِبُ الْإِقْنَاعِ فِي إقْنَاعِهِ، وَالْغَايَةِ وَغَيْرِهِمَا: وَمَنْ أَذْهَبَ طَيِّبَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعَ بِهَا نَقَصَتْ دَرَجَاتُهُ فِي الْآخِرَةِ.

وَدَلِيلُ هَذَا مَا رَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: لَقِيَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقَدْ ابْتَعْت لَحْمًا بِدِرْهَمٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>