مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ النِّعَمِ الْمُسَهِّلَةِ لِهَضْمِ الطَّعَامِ، وَأَنَّ مَنْ تَأَمَّلَ مَدْخَلَهُ وَمُسْتَقَرَّهُ وَمَخْرَجَهُ رَأَى فِيهِ الْعَجَائِبَ، وَالْعِبَرَ
وَقَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: وَإِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ إلَى غِذَائِهِ فَقَطْ فِي مَدْخَلِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ وَمَخْرَجِهِ رَأَى فِيهِ الْعِبَرَ، وَالْعَجَائِبَ كَيْفَ جُعِلَتْ لَهُ آلَةٌ يَتَنَاوَلُهُ بِهَا، ثُمَّ بَابٌ يَدْخُلُ مِنْهُ، ثُمَّ آلَةٌ تَقْطَعُهُ صِغَارًا، ثُمَّ طَاحُونٌ تَطْحَنُهُ، ثُمَّ أَعْيُنٌ بِمَاءٍ تَعْجِنُهُ، ثُمَّ جُعِلَ لَهُ مَجْرَى وَطَرِيقٌ إلَى جَانِبِ مَجْرَى النَّفَسِ يَنْزِلُ هَذَا وَيَصْعَدُ هَذَا فَلَا يَلْتَقِيَانِ مَعَ غَايَةِ الْقُرْبِ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ حَوَايَا وَطُرُقًا تُوَصِّلُهُ إلَى الْمَعِدَةِ فَهِيَ خِزَانَتُهُ وَمَوْضِعُ اجْتِمَاعِهِ، وَلَهَا بَابَانِ: بَابٌ أَعْلَى يَدْخُلُ مِنْهُ الطَّعَامُ وَبَابٌ أَسْفَلُ يَخْرُجُ مِنْهُ ثُفَلُهُ، وَالْبَابُ الْأَعْلَى أَوْسَعُ مِنْ الْأَسْفَلِ إذْ الْأَعْلَى مَدْخَلٌ لِلْحَاصِلِ، وَالْأَسْفَلُ مُصَرِّفٌ لِلضَّارِّ مِنْهُ، وَالْأَسْفَلُ مُنْطَبِقٌ دَائِمًا لِيَسْتَقِرَّ الطَّعَامُ فِي مَوْضِعِهِ، فَإِذَا انْتَهَى الْهَضْمُ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَابَ يَنْفَتِحُ إلَى انْقِضَاءِ الدَّفْعِ وَيُسَمَّى الْبَوَّابُ لِذَلِكَ، وَالْأَعْلَى يُسَمَّى فَمُ الْمَعِدَةِ يَنْزِلُ إلَى الْمَعِدَةِ مُتَلَمِّسًا، فَإِذَا اسْتَقَرَّ فِيهَا انْمَاعَ وَذَابَ وَيُحِيطُ بِالْمَعِدَةِ مِنْ دَاخِلِهَا وَخَارِجِهَا حَرَارَةٌ نَارِيَّةٌ، بَلْ رُبَّمَا تَزِيدُ عَلَى حَرَارَةِ النَّارِ يَنْضَجُ بِهَا الطَّعَامُ فِيهَا كَمَا يَنْضَجُ الطَّعَامُ فِي الْقِدْرِ بِالنَّارِ الْمُحِيطَةِ بِهِ وَلِذَلِكَ تُذِيبُ مَا هُوَ مُسْتَحْجَرٌ كَالْحَصَى وَغَيْرِهِ حَتَّى تَتْرُكَهُ مَائِعًا، فَإِذَا أَذَابَتْهُ عَلَا صَفْوُهُ إلَى فَوْقٍ وَرَسَا كَدَرُهُ إلَى أَسْفَلَ.
وَمِنْ الْمَعِدَةِ عُرُوقٌ مُتَّصِلَةٌ بِسَائِرِ الْبَدَنِ يَنْبَعِثُ فِيهَا مَعْلُومُ كُلِّ عُضْوٍ وَقِوَامُهُ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ وَقَبُولِهِ فَيَبْعَثُ أَشْرَفَ مَا فِي ذَلِكَ وَأَلْطَفَهُ وَأَحَبَّهُ إلَى الْأَرْوَاحِ، فَتَبْعَثُ إلَى الْبَصَرِ بَصَرًا وَإِلَى السَّمْعِ سَمْعًا وَإِلَى الشَّمِّ شَمًّا وَإِلَى كُلِّ حَاسَّةٍ بِحَسْبِهَا، فَهَذَا أَلْطَفُ مَا يَتَوَلَّدُ عَنْ الْغِذَاءِ، ثُمَّ يَنْبَعِثُ مِنْهُ إلَى الدِّمَاغِ مَا يُنَاسِبُهُ فِي اللَّطَافَةِ وَالِاعْتِدَالِ، ثُمَّ يَنْبَعِثُ مِنْ الْبَاقِي إلَى الْأَعْضَاءِ فِي تِلْكَ الْمَجَارِي بِحَسْبِهَا وَيَنْبَعِثُ مِنْهُ إلَى الْعِظَامِ وَالشُّعُورِ، وَالْأَظْفَارِ مَا يُغَذِّيهَا وَيَحْفَظُهَا فَيَكُونُ الْغِذَاءُ دَاخِلًا الْمَعِدَةَ مِنْ طُرُقٍ وَمَجَارٍ، هَذَا وَارِدٌ إلَيْهَا وَهَذَا صَادِرٌ عَنْهَا. حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَنِعْمَةٌ سَابِغَةٌ.
وَلَمَّا كَانَ الْغِذَاءُ إذَا اسْتَحَالَ فِي الْمَعِدَةِ اسْتَحَالَ دَمًا وَمِرَّةً سَوْدَاءَ وَمِرَّةً صَفْرَاءَ وَبَلْغَمًا اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَخْلَاطِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute