مَصْرِفًا يَنْصَبُّ إلَيْهِ وَيَجْتَمِعُ فِيهِ وَلَا يَنْبَعِثُ إلَى الْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ إلَّا أَكْمَلُهُ فَوَضَعَ الْمَرَارَةَ مَصَبًّا لِلْمِرَّةِ الصَّفْرَاءِ وَوَضَعَ الطِّحَالَ مَقَرًّا لِلْمِرَّةِ السَّوْدَاءِ، وَالْكَبِدُ يَمْتَصُّ أَشْرَفَ مَا فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الدَّمُ يَبْعَثُهُ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ مِنْ عِرْقٍ وَاحِدٍ يَنْقَسِمُ عَلَى مَجَارٍ كَثِيرَةٍ يُوَصِّلُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّعُورِ، وَالْأَعْصَابِ، وَالْعِظَامِ، وَالْعُرُوقِ مَا يَكُونُ بِهِ قِوَامُهُ.
ثُمَّ إذَا نَظَرْت إلَى مَا فِي هَذَا الْجِسْمِ مِنْ الْقُوَى الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْمُخْتَلِفَةِ فِي أَنْفُسِهَا وَمَنَافِعِهَا رَأَيْت الْعَجَبَ الْعُجَابَ كَقُوَّةِ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَشَمِّهِ وَذَوْقِهِ وَلَمْسِهِ وَحُبِّهِ وَبُغْضِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْقُوَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْإِدْرَاكِ، وَالْإِرَادَةِ، وَكَذَلِكَ الْقُوَى الْمُتَصَرِّفَةُ فِي غِذَائِهِ كَالْقُوَّةِ الْمُنْضِجَةِ لَهُ وَكَالْقُوَّةِ الْمَاسِكَةِ لَهُ وَالدَّافِعَةِ لَهُ إلَى الْأَعْضَاءِ، وَالْقُوَّةِ الْهَاضِمَةِ لَهُ بَعْدَ أَخْذِ الْأَعْضَاءِ حَاجَتَهَا مِنْهُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ الظَّاهِرَةِ، وَالْبَاطِنَةِ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: فَتَأَمَّلْ حَالَ الطَّعَامِ فِي وُصُولِهِ إلَى الْمَعِدَةِ وَكَيْفَ يَسْرِي مِنْهَا فِي الْبَدَنِ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَقَرَّ فِيهَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ وَانْضَمَّتْ فَتَطْبُخُهُ وَتُجِيدُ صَنْعَتَهُ، ثُمَّ تَبْعَثُهُ إلَى الْكَبِدِ فِي مَجَارٍ دِقَاقٍ، وَقَدْ جَعَلَ بَيْنَ الْكَبِدِ وَبَيْنَ تِلْكَ الْمَجَارِي غِشَاءً رَقِيقًا كَالْمِصْفَاةِ الضَّيِّقَةِ الْأَبْخَاشِ تُصَفِّيهِ فَلَا يَصِلُ إلَى الْكَبِدِ مِنْهُ شَيْءٌ غَلِيظٌ خَشِنٌ فَلَا يَنْكَأَهَا؛ لِأَنَّ الْكَبِدَ رَقِيقَةٌ لَا تَحْمِلُ الْغَلِيظَ، فَإِذَا قَبِلَتْهُ الْكَبِدُ أَنْفَذَتْهُ إلَى الْبَدَنِ كُلِّهِ فِي مَجَارٍ مُهَيَّأَةٍ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَارِي الْمُعَدَّةِ لِلْمَاءِ لِيَسْلُكَ فِي الْأَرْضِ فَيَعُمَّهَا بِالسَّقْيِ، ثُمَّ يَبْعَثُ مَا بَقِيَ مِنْ الْخَبَثِ، وَالْفُضُولِ إلَى مَغَايِضَ وَمَصَارِفَ قَدْ أُعِدَّتْ لَهَا فَمَا كَانَ مِنْ مِرَّةٍ صَفْرَاءَ بَعَثَتْ بِهِ إلَى الْمَرَارَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ مِرَّةٍ سَوْدَاءَ بَعَثَتْ بِهِ إلَى الطِّحَالِ، وَمَا كَانَ مِنْ الرُّطُوبَةِ الْمَائِيَّةِ بَعَثَتْ بِهِ إلَى الْمَثَانَةِ فَمَنْ الَّذِي تَوَلَّى ذَلِكَ وَأَحْكَمَهُ، وَدَبَّرَهُ وَقَدَّرَهُ أَحْسَنَ تَقْدِيرٍ وَأَتَمَّهُ. انْتَهَى.
فَانْظُرْ لَوْ قُمْت اللَّيْلَ وَصُمْت النَّهَارَ بِقَلْبٍ لَا يَغْفُلُ، وَلِسَانٍ عَنْ الذِّكْرِ لَا يَعْقِلُ هَلْ أَدَّيْت شُكْرَ هَذِهِ النِّعْمَةِ؟ وَلَا يَذْهَبُ عَنْك أَنَّهُ لَوْ انْسَدَّ مَجْرَى مِنْ تِلْكَ الْمَجَارِي الدِّقَاقِ الَّتِي تَنْبَعِثُ مِنْهَا تِلْكَ الْأَغْذِيَةُ لَجَفَّ مَا تُؤَدِّيهِ إلَيْهِ مِنْ الْأَعْضَاءِ، وَالْعُرُوقِ، وَالْأَعْصَابِ كَالشَّجَرَةِ الَّتِي حُبِسَ عَنْهَا الْمَاءُ فَلَيْسَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute