للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَطْلَبٌ: الرِّضَا بِالْقَضَاءِ مَقَامٌ عَظِيمٌ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَرَاتِ الْمَعْرِفَةِ

وَاعْلَمْ - وَفَّقَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكَ - أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ مَقَامٌ عَظِيمٌ. وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ ثَمَرَاتِ الْمَعْرِفَةِ. فَإِذَا عَرَفْته رَضِيت بِقَضَائِهِ. وَقَدْ يَجْرِي فِي ضِمْنِ الْقَضَاءِ مَرَارَاتٌ يَجِدُ بَعْضَ طَعْمِهَا الرَّاضِي. وَأَمَّا الْعَارِفُ فَتَقِلُّ عِنْدَهُ الْمَرَارَةُ لِقُوَّةِ حَلَاوَةِ الْمَعْرِفَةِ. فَإِذَا تَرَقَّى بِالْمَعْرِفَةِ إلَى الْمَحَبَّةِ صَارَتْ مَرَارَةُ الْأَقْدَارِ حَلَاوَةً. كَمَا قِيلَ:

عَذَابُهُ فِيك عَذْبٌ ... وَبُعْدُهُ فِيك قُرْبٌ

وَأَنْتَ عِنْدِي كَرُوحِي ... بَلْ أَنْتَ مِنْهَا أَحَبُّ

حَسْبِي مِنْ الْحُبِّ أَنِّي ... لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ

وَقَالَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ فِي الْمَعْنَى:

وَيَقْبُحُ عَنْ سِوَاك الْفِعْلُ عِنْدِي ... فَتَفْعَلُهُ فَيَحْسُنُ مِنْك ذَاكَا

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الرِّضَا إنَّمَا يُمْدَحُ حَيْثُ كَانَ بِمَا مِنْ اللَّهِ مِثْلَ الْمَرَضِ وَالْفَقْرِ.

وَأَمَّا بِالْكَسَلِ عَنْ خِدْمَتِهِ وَالْبُعْدِ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا. فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْك. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ ارْضَ بِمَا مِنْهُ لَا بِمَا مِنْك. فَأَمَّا الْكَسَلُ وَالتَّخَلُّفُ فَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَيْك فَلَا تَرْضَ بِهِ مِنْ فِعْلِك. وَكُنْ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ عَلَيْك، مُنَاقِشًا نَفْسَك فِيمَا يُقَرِّبُك مِنْهُ، غَيْرَ رَاضٍ مِنْهَا بِالتَّوَانِي فِي الْمُجَاهَدَةِ وَأَمَّا مَا يَصْدُرُ مِنْ أَقْضِيَتِهِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي لَا كَسْبَ لَك فِيهَا فَكُنْ رَاضِيًا بِهَا. كَمَا قَالَتْ رَابِعَةُ رَحِمَهَا اللَّهُ وَقَدْ ذُكِرَ عِنْدَهَا رَجُلٌ مِنْ الْعُبَّادِ يَلْتَقِطُ مِنْ مَزْبَلَةٍ فَيَأْكُلُ. فَقِيلَ هَلَّا يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ رِزْقَهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا؟ فَقَالَتْ إنَّ الرَّاضِي لَا يَتَخَيَّرُ.

وَمَنْ ذَاقَ طَعْمَ الْمَعْرِفَةِ وَجَدَ فِيهِ طَعْمَ الْمَحَبَّةِ. فَوَقَعَ الرِّضَا عِنْدَهُ ضَرُورَةً. فَيَنْبَغِي الِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَدِلَّةِ ثُمَّ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْمَعْرِفَةِ بِالْجِدِّ فِي الْخِدْمَةِ لَعَلَّ ذَلِكَ يُورِثُ الْمَحَبَّةَ. فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى «لَا يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ» فَذَلِكَ الْغِنَى الْأَكْبَرُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

[مَطْلَبٌ: فِي التَّحْذِيرِ عَنْ الْإِعْجَابِ وَالْكِبْرِ]

وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ جُمَلًا مِنْ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ يَحْصُلُ لِمَنْ حَصَّلَهَا إنْ لَمْ يُدَارِكْهُ لُطْفٌ وَيُلَاحِظْهُ تَوْفِيقٌ إعْجَابٌ وَكِبْرٌ حَذَّرَ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:

<<  <  ج: ص:  >  >>