للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّ حُرْمَتَهُمَا وَاجِبَةٌ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ حُرْمَتَهُمَا وَيَقْضِيَ حَقَّهُمَا. فَكَيْفَ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ، وَقَدْ أَمَرَ فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ وَأَوْحَى إلَى جَمِيعِ رُسُلِهِ وَأَوْصَاهُمْ بِحُرْمَةِ الْوَالِدَيْنِ وَمَعْرِفَةِ حَقِّهِمَا، وَجَعَلَ رِضَاهُ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسَخَطَهُ فِي سَخَطِهِمَا.

وَذَكَرَ بِسَنَدِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَوْ عَلِمَ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ الْعُقُوقِ أَدْنَى مِنْ أُفٍّ لَنَهَى عَنْ ذَلِكَ، فَلْيَعْمَلْ الْعَاقُّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلْيَعْمَلْ الْبَارُّ مَا شَاءَ أَنْ يَعْمَلَ فَلَنْ يَدْخُلَ النَّارَ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ثَلَاثُ آيَاتٍ نَزَلَتْ مَقْرُونَةً بِثَلَاثِ آيَاتٍ لَا يُقْبَلُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا بِغَيْرِ قَرِينَتِهَا، أَوَّلُهَا {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: ٤٣] ، فَمَنْ صَلَّى وَلَمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ الصَّلَاةُ.

وَالثَّانِي قَوْله تَعَالَى {اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: ١٤] ، فَمَنْ شَكَرَ اللَّهَ وَلَمْ يَشْكُرْ وَالِدَيْهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.

وَالثَّالِثُ قَوْله تَعَالَى {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: ٥٩] ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ وَلَمْ يُطِعْ الرَّسُولَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ.

وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْث أَيْضًا أَنَّ «رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي خَرِفَتْ عِنْدِي وَأَنَا أُطْعِمُهَا بِيَدَيْ وَأُسْقِيهَا بِيَدَيْ وَأُوَضِّيهَا وَأَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِي فَهَلْ جَزَيْتهَا؟ قَالَ لَا وَلَا وَاحِدًا مِنْ مِائَةٍ وَلَكِنَّك قَدْ أَحْسَنْت وَاَللَّهُ يُثِيبُك عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيرًا» قُلْت: وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ الْمَقُولَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَنَّهُ قَالَ لِلسَّائِلِ وَلَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَكِنَّك أَحْسَنْت. .. إلَخْ.

وَلَمَّا ذَكَرَ النَّاظِمُ وُجُوبَ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَحَذَّرَ مِنْ عُقُوقِهِمَا أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالتَّوْصِيَةِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ إلَى أَصْحَابِهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بِرِّهِمَا فَقَالَ:

مَطْلَبٌ: فِي بِرِّ الرَّجُلِ أَبَوَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا:

وَأَحْسِنْ إلَى أَصْحَابِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ... فَهَذَا بَقَايَا بِرِّهِ الْمُتَعَوَّدِ

(وَأَحْسِنْ) بِالْمَوَدَّةِ وَتَحْسِينِ الْأَخْلَاقِ وَحُسْنِ الصُّحْبَةِ وَلِينِ الْجَانِبِ وَإِطْلَاقِ الْوَجْهِ وَحُسْنِ الْبَشَاشَةِ (إلَى أَصْحَابِهِ) أَيْ الْوَالِدِ سَوَاءٌ كَانَ الْأَبُ أَوْ الْأُمُّ بِأَنْ يُكْرِمَ صُوَيْحِبَاتِهَا (بَعْدَ مَوْتِهِ) أَيْ وَالِدِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا الْقَيْدَ أَغْلَى فَيُحْسِنُ إلَى أَصْحَابِهِ وَلَوْ حَيًّا، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْأَغْلَبُ إنَّمَا يَحْتَاجُونَهُ بَعْدَ وَفَاةِ وَالِدِهِ قَيَّدُوهُ بِكَوْنِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ (فَهَذَا) أَيْ إحْسَانُك إلَى أَصْحَابِ وَالِدِك (بَقَايَا) أَيْ كَمَالُ

<<  <  ج: ص:  >  >>