للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرِّضَا كَسْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ سَبَبِهِ، وَهْبِيٌّ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَتِهِ، فَمَنْ تَمَكَّنَ بِالْكَسْبِ لِأَسْبَابِهِ وَغَرَسَ شَجَرَتَهُ اجْتَنَى مِنْهَا ثَمَرَةَ الرِّضَا، فَإِنَّهُ آخِرُ التَّوَكُّلِ، فَمَنْ رَسَخَ قَدَمُهُ فِي التَّوَكُّلِ وَالتَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ حَصَلَ لَهُ الرِّضَا وَلَا بُدَّ. وَلَكِنْ لِعِزَّتِهِ وَعَدَمِ إجَابَةِ أَكْثَرِ النُّفُوسِ لَهُ وَصُعُوبَتِهِ عَلَيْهَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ عَلَى خَلْقِهِ رَحْمَةً مِنْهُ بِهِمْ وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ. نَعَمْ نَدَبَهُمْ إلَيْهِ وَأَثْنَى عَلَى أَهْلِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ثَوَابَهُ رِضَاهُ عَنْهُمْ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ وَأَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِنْ الْجَنَّاتِ وَمَا فِيهَا، فَمَنْ رَضِيَ عَنْ رَبِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، بَلْ رِضَا الْعَبْدِ عَنْ اللَّهِ مِنْ نَتَائِجِ رِضَا اللَّهِ عَنْهُ، فَهُوَ مَحْفُوفٌ بِنَوْعَيْنِ مِنْ رِضَاهُ عَنْ عَبْدِهِ، رِضًا قَبْلَهُ أَوْجَبَ لَهُ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، وَرِضًا بَعْدَهُ هُوَ ثَمَرَةُ رِضَاهُ عَنْهُ.

وَلِذَا كَانَ الرِّضَا بَابَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ، وَجَنَّةَ الدُّنْيَا، وَمُسْتَرَاحَ الْعَارِفِينَ، وَحَيَاةَ الْمُحِبِّينَ، وَنَعِيمَ الْعَابِدِينَ، وَقُرَّةَ أَعْيُنِ الْمُشْتَاقِينَ.

وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ حُصُولِ الرِّضَا أَنْ يَلْزَمَ مَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رِضَاهُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُوَصِّلُهُ إلَى مَقَامِ الرِّضَا وَلَا بُدَّ. قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَتَى يَبْلُغُ الْعَبْدُ إلَى مَقَامِ الرِّضَا؟ فَقَالَ إذَا أَقَامَ نَفْسَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ فُصُولٍ فِيمَا يُعَامِلُ بِهِ رَبَّهُ، فَيَقُولُ إنْ أَعْطَيْتنِي قَبِلْت، وَإِنْ مَنَعْتنِي رَضِيت، وَإِنْ تَرَكَتْنِي عَبَدْت، وَإِنْ دَعَوْتنِي أَجَبْت.

وَلِهَذَا قَالَ النَّاظِمُ: - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَعْدَ أَمْرِهِ بِاِتِّخَاذِ الرِّضَا دِرْعًا وَجُنَّةً وَوِقَايَةً يَتَحَصَّنُ بِهِ عَنْ اخْتِلَاجِ الْقَلْبِ وَاضْطِرَابِهِ مِنْ النَّوَائِبِ وَالْخَطَرَاتِ وَالْهَوَاجِسِ وَالشُّبُهَاتِ، بَلْ يَكُونُ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ سَاكِنَ اللُّبِّ (لِ) جَمِيعِ (مَا) أَيْ الَّذِي (قَلَّبَ) هـ (الرَّحْمَنُ) جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَصَرَّفَهُ وَقَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ وَالْمَحْبُوبَاتِ.

مَطْلَبٌ: فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ وَبَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ

قَالَ الْجُنَيْدُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ: الرِّضَا هُوَ صِحَّةُ الْعِلْمِ الْوَاصِلِ إلَى الْقَلْبِ، فَإِذَا بَاشَرَ الْقَلْبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ أَدَّاهُ إلَى الرِّضَا، وَلَيْسَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ كَالرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَإِنَّ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةَ حَالَانِ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يُفَارِقَانِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْبَرْزَخِ وَلَا فِي الْآخِرَةِ، بِخِلَافِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَإِنَّهُمَا يُفَارِقَانِ أَهْلَ الْجَنَّةِ بِحُصُولِ مَا كَانُوا يَرْجُونَهُ، وَأَمْنِهِمْ مِمَّا كَانُوا يَخَافُونَهُ، وَإِنْ كَانَ

<<  <  ج: ص:  >  >>