إصْلَاحٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ، أَوْ دَفْعُ مَظْلِمَةٍ، مُرَادُهُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فَهَذَا مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ وَيُقَاسُ عَلَيْهِ مَا فِي مَعْنَاهُ كَكَذِبِهِ لِسَتْرِ مَالِ غَيْرِهِ عَنْ ظَالِمٍ، وَإِنْكَارِهِ الْمَعْصِيَةَ لِلسَّتْرِ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مَا لَمْ يُجَاهِرْ الْغَيْرُ بِهَا، بَلْ يَلْزَمُهُ السَّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِلَّا كَانَ مُجَاهِرًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرِيدَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ كَقِصَّةِ مَاعِزٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالسَّتْرُ أَوْلَى وَيَتُوبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى. وَكُلُّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى دَفْعِ الْمَضَرَّاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ الْإِمَامِ الْحَافِظُ بْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّ ضَابِطَ إبَاحَةِ الْكَذِبِ أَنَّ كُلَّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٍ لَا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَيْهِ إلَّا بِهِ فَهُوَ مُبَاحٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ وَاجِبًا فَهُوَ وَاجِبٌ، وَكَذَا قَالَ النَّوَوِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ. فَإِذَا اخْتَفَى مُسْلِمٌ مِنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ فَلَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ رَأَيْت فُلَانًا فَإِنَّهُ لَا يُخْبِرُ بِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ. وَلَوْ احْتَاجَ لِلْحَلِفِ فِي إنْجَاءِ مَعْصُومٍ مَنْ هَلَكَةٍ.
قَالَ الْإِمَامُ الْمُوَفَّقُ لِأَنَّ إنْجَاءَ الْمَعْصُومِ وَاجِبٌ، كَفِعْلِ سُوَيْد بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ خَرَجْنَا نُرِيدُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَنَا وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ فَأَخَذَهُ عَدُوٌّ لَهُ فَتَحَرَّجَ الْقَوْمُ أَنْ يَحْلِفُوا، فَحَلَفْت أَنَّهُ أَخِي، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «صَدَقْت الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ» وَلَكِنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ يَنْبَغِي لَهُ الْعُدُولُ إلَى الْمَعَارِيضِ مَا أَمْكَنَ لِئَلَّا تَعْتَادَ نَفْسُهُ الْكَذِبَ.
مَطْلَبٌ: يَنْبَغِي الْعُدُولُ لِلْمَعَارِيضِ مَا أَمْكَنَ
وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً مِنْ الْكَذِبِ» أَيْ فُسْحَةً وَسِعَةً يَعْنِي فِيهَا مَا يَسْتَغْنِي بِهِ الرَّجُلُ عَنْ الِاضْطِرَارِ إلَى الْكَذِبِ، وَهُوَ أَنْ يُرِيدَ بِلَفْظِهِ خِلَافَ ظَاهِرِهِ، كَقَوْلِهِ هَذَا أَخِي وَعَنَى فِي الدِّينِ، وَبِالسَّقْفِ وَعَنَى السَّمَاءَ، وَبِالْفِرَاشِ الْأَرْضَ، وَبِالْوَتَدِ الْجَبَلَ، وَبِاللِّبَاسِ اللَّيْلَ، وَبِالنِّسَاءِ الْأَقَارِبَ وَبِالْبَارِيَةِ السِّكِّينَ الَّتِي تَبْرِي الْقَلَمَ، وَلَا بَأْسَ بِتَعَلُّمِهَا وَتَتَبُّعِهَا. قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: قَالَ الْإِمَامُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِمَا أَعْلَمُ مِنْ الْمَعَارِيضِ مِثْلَ أَهْلِي وَمَالِي. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لَهُمْ كَلَامٌ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ إذَا خَشَوْا مِنْ شَيْءٍ يَرُدُّونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute