للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِيهِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَانِعًا أَوَّلُهُمْ مِيكَائِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهُوَ الَّذِي يَكِيلُ الْمَاءَ مِنْ خَزَائِنِ الرَّحْمَةِ، ثُمَّ الْمَلَائِكَةُ الَّتِي تَزْجُرُ السَّحَابَ وَالشَّمْسَ، وَالْقَمَرَ، وَالْأَفْلَاكَ وَدَوَابَّ الْأَرْضِ، وَآخِرُ ذَلِكَ الْخَبَّازُ انْتَهَى.

وَلَمَّا تَمَّ ذَلِكَ جَعَلَ لَك مَيْلًا إلَيْهِ وَشَوْقًا فِي الطَّبْعِ؛ لِأَنَّك لَوْ رَأَيْته وَلَمْ يَكُنْ لَك إلَيْهِ شَوْقٌ لَمْ تَطْلُبْهُ فَجَعَلَ شَهْوَتَك لَهُ كَالْمُتَقَاضِي، فَإِذَا أَخَذْت مِقْدَارَ الْحَاجَةِ سَكَنَتْ تِلْكَ الشَّهْوَةُ، وَكَذَلِكَ شَهْوَةُ الْوِقَاعِ لِيَبْقَى النَّسْلُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي بَلَدِك فَيُلْقِي الْحِرْصَ فِي قُلُوبِ التُّجَّارِ فَيَنْقُلُونَهُ إلَيْك، فَإِذَا تَنَاوَلْت الطَّعَامَ أَلْقَيْته فِي دِهْلِيزِ الْفَمِ وَبِذَلِكَ لَا يَتَهَيَّأُ ابْتِلَاعُهُ فَخَلَقَ الْأَسْنَانَ تَقْطَعُهُ، وَالْأَضْرَاسَ تَطْحَنُهُ وَجَعَلَ الرَّحَى الْأَسْفَلَ يَدُورُ دُونَ الْأَعْلَى لِئَلَّا يُخَاطِرَ بِالْأَعْضَاءِ الشَّرِيفَةِ وَلَسْت تَرَى رَحَى قَطُّ يَدُورُ أَسْفَلَهَا.

وَلَمَّا كَانَ الْمَطْحُونُ يَفْتَقِرُ إلَى تَقْلِيبٍ لِيُطْحَنَ بِهِ مَا لَمْ يُطْحَنْ خَلَقَ اللِّسَانَ لِيُقَلِّبَهُ، ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى، بَلْعِهِ إلَّا أَنْ يُزْلَقَ بِنَوْعِ رُطُوبَةٍ، فَانْظُرْ كَيْفَ خَلَقَ تَحْتَ اللِّسَانِ عَيْنًا يَفِيضُ اللُّعَابُ مِنْهَا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ فَيَعْجِنُ بِهَا الطَّعَامَ، أَلَا تَرَاهَا إذَا دَنَا مِنْك الطَّعَامُ تَنْهَضُ لِلْخِدْمَةِ فَتَتَحَلَّبُ، ثُمَّ هَيَّأَ الْمَرِيءَ، وَالْحَنْجَرَةَ لِبَلْعِهِ، فَيَهْوَى فِي دِهْلِيزِ الْمَرِيءِ إلَى الْمَعِدَةِ، فَيُطْبَخُ هُنَاكَ وَيَصِيرُ مَائِعًا، ثُمَّ تَصْبُغُهُ الْكَبِدُ بِلَوْنِ الدَّمِ، وَتُنْضِجُهُ فَيَنْبَعِثُ إلَى الْأَعْضَاءِ فِي الْعُرُوقِ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَتَبْقَى فَضْلَتَانِ إحْدَاهُمَا شَبِيهٌ بِالدُّرْدِيِّ، وَالْعَكِرِ، وَهُوَ الْخَلْطُ السَّوْدَاوِيُّ، وَالْأُخْرَى شَبِيهٌ بِالرَّغْوَةِ، وَهِيَ الصَّفْرَاءُ فَيَبْقَى الدَّمُ صَافِيًا، وَإِنَّمَا يَثْقُلُ الشُّكْرُ أَوْ تُقَالُ لَفْظَةُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ " عَلَى سَبِيلِ الْغَفْلَةِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْلِ بِالْمُنْعِمِ وَقِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِمِقْدَارِ النِّعْمَةِ وَيَدُلُّك عَلَى الْجَهْلِ أَنَّك لَوْ حُبِسْت فِي حَمَّامٍ فَخَرَجْت إلَى الْهَوَاءِ الْبَارِدِ وَجَدْت لَذَّةً لَمْ تَجِدْهَا وَذَلِكَ النَّفَسُ هُوَ الدَّائِمُ غَيْرَ أَنَّ الضِّدَّ عَرَّفَك قَدْرَهُ. وَبِضِدِّهَا تَتَمَيَّزُ الْأَشْيَاءُ، ثُمَّ قَالَ:

فَيَا غَافِلًا عَنْ النِّعَمِ زَاحَمْت فِي الْغَفْلَةِ النَّعَمَ مَا تَعْرِفُ مِنْ الطَّعَامِ إلَّا الْأَكْلَ وَلَا مِنْ الْمَاءِ إلَّا الشُّرْبَ. وَتَتَكَاسَلُ فِي لَفْظِ الْحَمْدِ، ثُمَّ تُنْفِقُ النِّعَمَ فِي مَعَاصِي الْمُنْعِمِ. يَا عَدِيمَ الْعَقْلِ وَلَيْسَ بِمَجْنُونٍ. يَا رَاقِدًا فِي غَفْلَتِهِ وَلَيْسَ بِنَائِمٍ، يَا مَيِّتًا فِي حَيَاتِهِ وَلَيْسَ بِمَقْبُورٍ افْتَحْ بَصَرَ الْبَصِيرَةِ تَرَ الْعَجَائِبَ، وَإِنْ تَرَقَّيْت بِفَهْمِك عَلِمْت أَنَّ مَا بَيْنَ يَدَيْك أَعْجَبُ.

وَإِنَّمَا هِيَ الدَّارُ كَالْمَكْتَبِ يَخْرُجُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ بَيْنَ حَاذِقٍ وَبَيْنَ غَافِلٍ وَمُتَعَلِّمٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>