للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النِّكَاحِ وَجَمْعِ الْمَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ نَرُدُّهُ بِالرِّيَاضَةِ عَمَّا يُؤْذِي، وَنَأْمُرُ الْمُتَكَبِّرَ بِالتَّوَاضُعِ، وَنَأْمُرُ السَّيِّئَ الْخُلُقَ بِالِاحْتِمَالِ وَالصَّفْحِ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ.

وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ: الْهَوَى مَيْلُ النَّفْسِ إلَى مَا يُلَائِمُهَا، وَهَذَا الْمَيْلُ خُلِقَ فِي الْإِنْسَانِ لِضَرُورَةِ بَقَائِهِ، فَإِنَّهُ لَوْلَا مَيْلُهُ إلَى الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمُنْكَحِ مَا أَكَلَ وَلَا شَرِبَ وَلَا نَكَحَ. فَالْهَوَى سَاحِبٌ لَهُ لِمَا يُرِيدُهُ، كَمَا أَنَّ الْغَضَبَ دَافِعٌ عَنْهُ مَا يُؤْذِيه، فَلَا يَنْبَغِي ذَمُّ الْهَوَى مُطْلَقًا وَلَا مَدْحُهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُذَمُّ الْمُفْرِطُ مِنْ النَّوْعَيْنِ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ.

وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ مِمَّنْ يُطِيعُ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ أَنَّهُ لَا يَقِفُ فِيهِ عَلَى حَدِّ الْمُنْتَفِعِ بِهِ، أَطْلَقَ ذَمَّ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ لِعُمُومِ غَلَبَةِ الضَّرَرِ؛ لِأَنَّهُ يَنْدُرُ مَنْ يَقْصِدُ الْعَدْلَ فِي ذَلِكَ وَيَقِفُ عِنْدَهُ، كَمَا أَنَّهُ يَنْدُرُ فِي الْأَمْزِجَةِ الْمِزَاجُ الْمُعْتَدِلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ غَلَبَةِ أَحَدِ الْأَخْلَاطِ وَالْكَيْفِيَّاتِ عَلَيْهِ، فَحِرْصُ النَّاصِحِ عَلَى تَعْدِيلِ قُوَّةِ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَحِرْصِ الطَّبِيبِ عَلَى تَعْدِيلِ الْمِزَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا أَمْرٌ يَتَعَذَّرُ وُجُودُهُ إلَّا فِي حَقِّ أَفْرَادٍ مِنْ الْعَالَمِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ تَعَالَى الْهَوَى فِي كِتَابِهِ إلَّا ذَمَّهُ، وَكَذَلِكَ فِي السُّنَّةِ لَمْ يَجِئْ إلَّا مَذْمُومًا إلَّا مَا جَاءَ مِنْهُ مُقَيَّدًا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْت بِهِ» .

وَتَقَدَّمَ التَّنْصِيصُ عَلَى هَذَا، وَقَدْ قِيلَ: الْهَوَى كَمِينٌ لَا يُؤْمَنُ وَمُطْلِقُهُ يَدْعُو اللَّذَّةَ الْحَاضِرَةَ مِنْ غَيْرِ فِكْرٍ فِي الْعَاقِبَةِ، وَيَحْثُ عَلَى نَيْلِ الشَّهَوَاتِ عَاجِلًا، وَإِنْ كَانَتْ سَبَبًا لِأَعْظَمِ الْآلَامِ أَجْلًا وَرُبَّمَا يَكُونُ عَاجِلًا أَيْضًا، فَالْهَوَى وَالنَّفْسُ وَالشَّيْطَانُ وَالدُّنْيَا يَدْعُونَ إلَى مَا فِيهِ الْبَوَارُ، وَيُعْمِينَ عَيْنَ الْبَصِيرَةِ عَنْ النَّظَرِ فِي الْعَوَاقِبِ وَمَا يُغْضِبُ وَيُرْضِي الْجَبَّارَ، وَالدِّينُ وَالْمُرُوءَةُ وَالْعَقْلُ وَالرُّوحُ يَنْهَيْنَ عَنْ لَذَّةٍ تَعْقُبُ أَلَمًا، وَشَهْوَةً تُورِثُ نَدَمًا. وَلَمَّا اُبْتُلِيَ الْمُكَلَّفُ وَامْتُحِنَ بِالْهَوَى مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْبَهَائِمِ، وَكَانَ كُلُّ وَقْتٍ تَحْدُثُ عَلَيْهِ الْحَوَادِثُ جُعِلَ فِيهِ حَاكِمَانِ حَاكِمُ الْعَقْلِ وَحَاكِمُ الدِّينِ.

وَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَمَرَّنَ عَلَى دَفْعِ الْهَوَى الْمَأْمُونِ الْعَوَاقِبِ، لِيَتَمَرَّنَ بِذَلِكَ عَلَى تَرْكِ مَا تُؤْذِي عَوَاقِبُهُ. وَلِيَعْلَمَ اللَّبِيبُ أَنَّ مُدْمِنِي الشَّهَوَاتِ يَصِيرُونَ إلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>