للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَرَى الدُّنْيَا لِمَنْ هِيَ فِي يَدَيْهِ ... وَبَالًا كُلَّمَا كَثُرَتْ عَلَيْهِ

تُهِينُ الْمُكْرَمِينَ لَهَا بِصِغَرِ ... وَتُكْرِمُ كُلَّ مَنْ هَانَتْ عَلَيْهِ

إذَا اسْتَغْنَيْت عَنْ شَيْءٍ فَدَعْهُ ... وَخُذْ مَا أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ

وَاَللَّهِ لَقَدْ سَقَتْ الدُّنْيَا أَرْبَابَهَا سُمًّا، وَأَبْدَلَتْهُمْ مِنْ أَفْرَاحِهِمْ بِهَا هَمًّا، وَأَثَابَتْهُمْ عَلَى مَدْحِهِمْ لَهَا ذَمًّا، وَقَطَّعَتْ أَكْبَادَهُمْ فَمَاتُوا عَلَيْهَا غَمًّا. فَيَا مَشْغُولًا بِهَا تَوَقَّعْ خَطْبًا مُلِمًّا، إيَّاكَ وَالْأَمَلَ أَمَّا وَأَمَّا، كَمْ نَادَتْ الدُّنْيَا نَادِمًا، أَلْهَتْهُ بِالْمُنَادَمَةِ، حَتَّى سَفَكَتْ بِالْمُنَى دَمَهُ، وَصَاحَتْ بِهِ الْآيَاتُ الْمُحْكَمَةُ، وَكَيْفَ يُبْصِرُ مَنْ فِي عَيْنِهِ كَمَهٌ. إيَّاكَ وَإِيَّاهَا فَإِنَّهَا تَسْحَرُ الْعُقُولَ بِالدَّمْدَمَةِ، وَتُحْسِرُ الْمَتْبُولَ بِالزَّمْزَمَةِ، فَشَمِّرْ عَنْ سَاقِ الْجِدِّ لِتَحْظَى بِدَارِ الْجَدِّ وَدَعْ الْقَمْقَمَةَ، فَإِنَّ بُعْدَ الْعَاقِلِ عَنْ دَارِ الْمَكْرِ مَكْرُمَةٌ شِعْرٌ:

أَبِالْمَنْزِلِ الْفَانِي تُؤَمِّلُ أَنْ تَبْقَى ... كَفَاك بِمَا تَرْجُو وَتَأْمُلُهُ خِرْقَا

وَفِي كُلِّ يَوْمٍ مُحْدَثٍ لَك فُرْقَةٌ ... تَرَى خَطْبَهَا خَطْبًا جَلِيلًا وَإِنْ دَقَّا

لَعَمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِبَاقِيَةٍ وَلَا ... بِهَا أَحَدٌ يَبْقَى فَيَطْمَعُ أَنْ يَبْقَى

كَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: لَوْ لَمْ يَكُنْ لَنَا ذُنُوبٌ نَخَافُ عَلَى أَنْفُسِنَا مِنْهَا إلَّا حُبَّ الدُّنْيَا لَخَشِينَا عَلَى أَنْفُسِنَا. وَاَللَّهِ مَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ بُسِطَ لَهُ دُنْيَا فَلَمْ يَخَفْ أَنْ يَكُونَ قَدْ مُكِرَ بِهِ فِيهَا إلَّا كَانَ قَدْ نَقَصَ عَمَلُهُ وَعَجَزَ رَأْيُهُ. وَاَللَّهِ إنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيَيْبَسُ جِلْدُهُ عَلَى عَظْمِهِ وَمَا بَيْنَهُمَا شَحْمٌ وَلَا لَحْمٌ يُدْعَى إلَى الدُّنْيَا حَلَالًا فَمَا يَقْبَلُ مِنْهَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا يَقُولُ أَخَافُ أَنْ تُفْسِدَ عَلَيَّ قَلْبِي. وَاَللَّهِ لَقَدْ أَدْرَكْنَا أَقْوَامًا وَصَحِبْنَا طَوَائِفَ مِنْهُمْ. وَاَللَّهِ لَهُمْ كَانُوا أَزْهَدَ فِي الْحَلَالِ مِنْكُمْ فِي الْحَرَامِ.

وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ اللَّيْثِ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رَأَى الدُّنْيَا فِي صُورَةِ عَجُوزٍ هَتْمَاءَ عَلَيْهَا مِنْ كُلِّ زِينَةٍ، فَقَالَ لَهَا كَمْ تَزَوَّجْت؟ قَالَتْ لَا أُحْصِيهِمْ قَالَ: فَكُلُّهُمْ مَاتَ عَنْك أَوْ كُلُّهُمْ طَلَّقَك؟ قَالَتْ: بَلْ كُلُّهُمْ قَتَلْت، فَقَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " بُؤْسًا لِأَزْوَاجِك الْبَاقِينَ، كَيْفَ لَا يَعْتَبِرُونَ بِالْمَاضِينَ "؟

وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: يُؤْتَى بِالدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صُورَةِ عَجُوزٍ شَمْطَاءَ زَرْقَاءَ أَنْيَابُهَا بَادِيَةٌ مُشَوَّهَةٌ خَلْقُهَا، فَتُشْرِفُ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>