للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَظَنُّوا دُخُولَ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ فِيهِ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا وَفِيهَا قَوْلُهُ {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: ٢٨٦] فَبَيَّنَتْ أَنَّ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهِ وَلَا مُكَلَّفٍ بِهِ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: لِلْعَزَائِمِ الْمُصَمِّمَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي النُّفُوسِ وَتَدُومُ وَيُسَاكِنُهَا صَاحِبُهَا فَهَذَا أَيْضًا نَوْعَانِ:

الْأَوَّلُ: مَا كَانَ عَمَلًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ كَالشَّكِّ فِي الْوَحْدَانِيَّةِ أَوْ النُّبُوَّةِ أَوْ الْبَعْثِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فَهَذَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَيَصِيرُ بِهِ كَافِرًا وَمُنَافِقًا، وَيَلْتَحِقُ بِهَذَا سَائِرُ الْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُلُوبِ كَمَحَبَّةِ مَا يَبْغُضُهُ اللَّهُ وَبُغْضِ مَا يُحِبُّهُ، وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْحَسَدِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ مُوجِبٍ، عَلَى أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُوءِ الظَّنِّ إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ قَوْلٌ أَوْ فِعْلٌ فَهُوَ مَعْفُوٌّ. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي الْحَسَدِ.

قَالَ: الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ: وَلَعَلَّ هَذَا مَحْمُولٌ مِنْ قَوْلِهِمَا عَلَى مَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ فَهُوَ يَكْرَهُهُ وَيَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَنْدَفِعُ، لَا عَلَى مَا يُسَاكِنُهُ وَيَسْتَرْوِحُ إلَيْهِ وَيُعِيدُ حَدِيثَ نَفْسِهِ بِهِ وَيُبْدِيهِ.

وَالثَّانِي: مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ بَلْ كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَتْلِ وَالْقَذْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ إذَا أَصَرَّ الْعَبْدُ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ أَثَرٌ فِي الْخَارِجِ أَصْلًا، فَهَذَا فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ: أَحَدُهُمَا يُؤَاخَذُ بِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: سَأَلْت سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ أَيُؤَاخَذُ الْعَبْدُ بِالْهَمَّةِ؟ فَقَالَ إذَا كَانَتْ عَزْمًا أُوخِذَ بِهَا.

وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: ٢٣٥] وَبِقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: ٢٢٥] وَبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» وَحَمَلُوا قَوْلَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ» عَلَى الْخَطَرَاتِ، وَقَالُوا مَا سَاكَنَهُ الْعَبْدُ وَعَقَدَ قَلْبَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ كَسْبِهِ وَعَمَلِهِ فَلَا يَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ. وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ إنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِالْهُمُومِ وَالْغُمُومِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا:

<<  <  ج: ص:  >  >>