للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ عَلَيْهَا زَادُهُ وَشَرَابُهُ، فَاَللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ» . قَوْلُهُ «فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ» الدَّوِّيَّةُ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ جَمِيعًا هِيَ الْفَلَاةُ الْقَفْرُ وَالْمَفَازَةُ. قَالَ الْمُحَقِّقُ بْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِهِ مِفْتَاحِ دَارِ السَّعَادَةِ: وَلَيْسَ فِي أَنْوَاعِ الْفَرَحِ أَكْمَلُ وَلَا أَعْظَمُ مِنْ هَذَا الْفَرَحِ، وَلَوْلَا الْمَحَبَّةُ التَّامَّةُ لِلتَّوْبَةِ وَلِأَهْلِهَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْفَرَحُ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ وُجُودَ الْمُسَبَّبِ بِدُونِ سَبَبِهِ مُمْتَنِعٌ، وَهَلْ يُوجَدُ مَلْزُومٌ بِدُونِ لَازِمِهِ أَوْ غَايَةٌ بِدُونِ وَسِيلَتِهَا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِ الْعَارِفِينَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ التَّوْبَةُ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ لَمَا ابْتَلَى بِالذَّنْبِ أَكْرَمَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَيْهِ.

فَالتَّوْبَةُ هِيَ غَايَةُ كَمَالِ كُلِّ آدَمِيٍّ. وَإِنَّمَا كَانَ كَمَالُ أَبِيهِمْ بِهَا، فَكَمْ بَيْنَ حَالِهِ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} [طه: ١١٨] {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه: ١١٩] وَبَيْنَ قَوْلِهِ {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: ١٢٢] فَالْحَالُ الْأُولَى حَالُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَتَمَتُّعٍ، وَالْحَالُ الْأُخْرَى حَالُ اجْتِبَاءٍ وَاصْطِفَاءٍ وَهِدَايَةٍ، فَيَا بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ التَّائِبَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَتِهِ أَعْظَمَ فَرَحٍ.

وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَلَا تَنْسَ الْفَرْحَةَ الَّتِي تَظْفَرُ بِهَا عِنْدَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَجِدُ الْقَلْبَ يَرْقُصُ فَرَحًا وَأَنْتَ لَا تَدْرِي سَبَبَ ذَلِكَ الْفَرَحِ مَا هُوَ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحُسُّ بِهِ إلَّا حَيُّ الْقَلْبِ، وَأَمَّا مَيِّتُ الْقَلْبِ فَإِنَّمَا يَجِدُ الْفَرَحَ عِنْدَ ظَفَرِهِ بِالذَّنْبِ وَلَا يَعْرِفُ فَرَحًا غَيْرَهُ.

فَوَازِنْ إذًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَرْحَيْنِ، وَانْظُرْ مَا يَعْقُبُ فَرَحَ الظَّفَرِ بِالذَّنْبِ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَحْزَانِ وَالْهُمُومِ وَالْمَصَائِبِ. فَمَنْ يَشْتَرِي فَرْحَةَ سَاعَةٍ بِغَمِّ الْأَبَدِ، وَانْظُرْ مَا يَعْقُبُ فَرَحَ الظَّفَرِ بِالطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ مِنْ الِانْشِرَاحِ الدَّائِمِ وَالنَّعِيمِ وَطِيبِ الْعَيْشِ، وَوَازِنْ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا ثُمَّ اخْتَرْ مَا يَلِيقُ بِك وَيُنَاسِبُك، وَكُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ، وَكُلُّ امْرِئٍ يَصْبُو إلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.

وَقَدْ رَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ فِي أَمَالِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ الْعَقِيمِ الْوَالِدِ، مِنْ الضَّالِّ الْوَاجِدِ، وَمِنْ الظَّمْآنِ الْوَارِدِ» .

رَوَى أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَرْكَانَ الْهَمْدَانِيُّ فِي كِتَابِ التَّائِبِينَ عَنْ أَبِي الْجَوْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>