للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَك، وَنَحْنُ نَعْقِلُ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَك قَالَ لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْت الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا» . وَأَخْرَجَ أَيْضًا نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

وَقَالَ الْإِمَام الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ فِي كِتَابِهِ الذُّلُّ وَالِانْكِسَارُ لِلْعَزِيزِ الْجَبَّارِ: السُّجُودُ أَعْظَمُ مَا يَظْهَرُ فِيهِ ذُلُّ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَيْثُ جَعَلَ الْعَبْدُ أَشْرَفَ مَا لَهُ مِنْ الْأَعْضَاءِ وَأَعَزَّهَا عَلَيْهِ وَأَعْلَاهَا حَقِيقَةً أَوْضَعَ مَا يُمْكِنُهُ فَيَضَعُهُ فِي التُّرَابِ مُعَفَّرًا، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ انْكِسَارُ الْقَلْبِ وَتَوَاضُعُهُ وَخُشُوعُهُ، وَلِذَا كَانَ جَزَاءُ الْعَبْدِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَنْ يُقَرِّبَهُ اللَّهُ إلَيْهِ، فَإِنَّ أَقْرَبَ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ تَعَالَى {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: ١٩] وَهُوَ مِمَّا كَانَ يَأْنَفُ مِنْهُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَكَبِّرُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: أَكْرَهُ أَنْ أَسْجُدَ فَتَعْلُونِي اسْتِي. وَإِنَّمَا طَرَدَ اللَّهُ إبْلِيسَ لَمَّا اسْتَكْبَرَ عَنْ السُّجُودِ حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، وَلِذَا يَبْكِي إذَا سَجَدَ الْمُؤْمِنُ، وَيَقُولُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَفَعَلَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْت فَعَصَيْت فَلِيَ النَّارُ.

وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ لَيْلَةً فِي سُجُودِهِ «أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أُعَفِّرُ وَجْهِي فِي التُّرَابِ لِسَيِّدِي وَحُقَّ لِوَجْهِ سَيِّدِي أَنْ تُعَفَّرَ الْوُجُوهُ لِوَجْهِهِ» .

قَالَ وَمَرَّ عِصَامُ بْنُ يُوسُفَ بِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ فِي مَجْلِسِهِ، فَقَالَ يَا حَاتِمُ تُحْسِنُ تُصَلِّي؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: كَيْفَ تُصَلِّي؟ قَالَ حَاتِمٌ أَقُومُ بِالْأَمْرِ، وَأَمْشِي بِالْخَشْيَةِ وَأَدْخُلُ بِالنِّيَّةِ، وَأُكَبِّرُ بِالْعَظَمَةِ، وَأَقْرَأُ بِالتَّرَسُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، وَأَرْكَعُ بِالْخُشُوعِ، وَأَسْجُدُ بِالتَّوَاضُعِ، وَأَجْلِسُ لِلتَّشَهُّدِ بِالتَّمَامِ، وَأُسَلَّمُ بِالسَّبِيلِ وَالسُّنَّةِ، وَأُسَلِّمُهَا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَرْجِعُ عَلَى نَفْسِي بِالْخَوْفِ فَأَخَافُ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنِّي، وَأَحْفَظُهُ بِالْجَهْدِ إلَى الْمَوْتِ. فَقَالَ: تَكَلَّمْ فَأَنْتَ تُحْسِنُ تُصَلِّي. فَالسُّجُودُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَظْهَرُ بِهِ التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ لِلْمَعْبُودِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ الصَّلَاةِ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ إلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَحْرُمُ لِأَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>