للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَحَسَدِهِ، بِسِهَامِ بِرِّهِ وَمُوَالَاتِهِ وَتَفَقُّدِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: ٣٤] فَكَيْفَ بِالْحَمِيمِ الَّذِي هُوَ الْقَرِيبُ.

قَالَ الْإِمَامُ الْمُحَقِّقُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي إعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ: «وَسَأَلَهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ وَيُسِيئُونَ، وَأَغْفِرُ وَيَظْلِمُونَ أَفَأُكَافِئُهُمْ؟ فَقَالَ لَا إذَنْ تَكُونُوا جَمِيعًا وَلَكِنْ خُذْ الْفَضْلَ وَصِلْهُمْ فَإِنَّهُ لَنْ يَزَالَ مَعَكَ ظَهِيرٌ مِنْ اللَّهِ مَا كُنْت عَلَى ذَلِكَ» رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.

وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ «رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَلَيْهِمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ إنْ كُنْت كَمَا قُلْت فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْت عَلَى ذَلِكَ» .

قَوْلُهُ الْمَلَّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْمَلَّةُ هُوَ الرَّمَادُ الْحَارُّ، يَعْنِي كَأَنَّك تُسْفِي فِي وُجُوهِهِمْ الرَّمَادَ الْحَارَّ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَلَّةُ التُّرْبَةُ الْمُحْمَاةُ تُدْفَنُ فِيهَا الْخُبْزَةُ. وَقَالَ الْقَبْتِيُّ: الْمَلُّ الْجَمْرُ.

قَالَ فِي النِّهَايَةِ: أَرَادَ إنَّمَا تَجْعَلُ الْمَلَّ لَهُمْ سَفُوفًا يَسْتَفُّونَهُ يَعْنِي أَنَّ إعْطَاءَك إيَّاهُمْ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ وَنَارٌ فِي بُطُونِهِمْ. انْتَهَى.

وَعَلَى كُلِّ حَالٍ الْإِحْسَانُ وَالْمَوَدَّةُ يَقْلِبَانِ الْعَدَاوَةَ صَدَقَةً بِلَا مُحَالٍ. وَمَا أَحْسَنُ قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُعْتَزِّ الْعَبَّاسِيِّ فِي تَائِيَّتِهِ الَّتِي أَوَّلُهَا:

أَلَا عَلِّلَانِي قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمَوْتُ ... وَيُبْنَى لِجُسْمَانِي بِدَارِ الْبِلَى بَيْتُ

أَلَا عَلِّلَانِي كَمْ حَبِيبٍ تَعَذَّرَتْ ... مَوَدَّتُهُ عَنْ وَصْلِهِ قَدْ تَسَلَّيْت

أَلَا رُبَّ دَسَّاسٍ لِي الْكَيْدَ حَامِلٍ ... ضَبَابَ الْحَقُودِ قَدْ عَرَفْت وَدَاوَيْت

فَعَادَ صَدِيقًا بَعْدَ مَا كَانَ شَانِيًا ... بَعِيدَ الرِّضَى عَنِّي فَصَافَى وَصَافَيْت

أَلَا عَلِّلَانِي لَيْسَ سَعْيٌ بِمُدْرَكٍ ... وَلَا بِوُقُوفِي بِاَلَّذِي حَظَّنِي فَوْتُ

فَأَهْلَكَنِي مَا أَهْلَكَ النَّاسَ كُلَّهُمْ ... صُرُوفُ الْمُنَى وَالْحِرْصُ وَاللَّوُّ وَاللَّيْتُ

وَعَرَّفَنِي رَبِّي طَرِيقَ سَلَامَتِي ... وَبَصَّرَنِي لَكِنَّنِي قَدْ تَعَامَيْت

إلَى أَنْ قَالَ:

وَمِنْ عَجَبِ الْأَيَّامِ بَغْيُ مَعَاشِرَ ... غِضَابٍ عَلَى سَبْقِي إذَا أَنَا جَارَيْت

لَهُمْ رَحِمٌ دُنْيَا وَهُمْ يُبْعِدُونَهَا ... إذَا أَنْهَكُوهَا بِالْقَطِيعَةِ أَبْقَيْت

يَصُدُّونَ عَنْ شُكْرِي وَتُهْجَرُ سُنَّتِي ... عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ مِثْلِ مَا يُهْجَرُ الْمَيْتُ

فَذَلِكَ دَأْبُ الْبِرِّ مِنِّي وَدَأْبُهُمْ ... إذَا قَتَلُوا نُعْمَايَ بِالْكُفْرِ أَحْيَيْت

<<  <  ج: ص:  >  >>