ثُمَّ اسْتَثْنَى النَّاظِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ثَلَاثَ صُوَرٍ: الْأُولَى مَا أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ (سِوَى الْقَتْلِ) لَا يَكُونُ فِعْلُ الْمُكْرَهِ إذَا فَعَلَهُ لَغْوًا، بَلْ مُؤَاخَذًا بِهِ، فَلَوْ أُكْرِهَ مُكَلَّفٌ عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ يُكَافِئُهُ فَقَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ الْمُكْرَهُ وَالْمُكْرِهُ مَعًا هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ، وَالْقَوْلُ الصَّحِيحُ الْمَنْصُورُ، وَعِنْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الْقَتْلَ عَلَى الْمُبَاشِرِ دُونَ الْآمِرِ، وَالْمَذْهَبُ عَلَيْهِمَا مَعَ الْإِكْرَاهِ الْمُعْتَبَرِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ يَقَعُ التَّعَارُضُ عِنْدَهُ بَيْنَ تَفْوِيتِ نَفْسِهِ وَنَفْسِ غَيْرِهِ وَهُمَا بِالنِّسْبَةِ إلَى عَدْلِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ، فَإِذَا أَقْدَمَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ فَقَدْ آثَرَ بَقَاءَ نَفْسِهِ عَلَى فَوَاتِهَا وَفَنَاءِ نَفْسِ غَيْرِهِ فَصَارَ مُخْتَارًا، وَخَرَجَ عَنْ حَدِّ الْإِكْرَاهِ، وَهُوَ مُكَلَّفٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خِلَافًا لِلطُّوفِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ فِي الِانْتِصَارِ.
وَمِثْلُهُ لَوْ قِيلَ لَهُ: اُقْتُلْ نَفْسَك وَإِلَّا قَتَلْتُك فَلَيْسَ بِإِكْرَاهٍ فَلَا يُبَاحُ لَهُ قَتْلُ نَفْسِهِ. وَاخْتَارَهُ فِي الرِّعَايَةِ أَنَّهُ يَكُونُ إكْرَاهًا، وَالْمَذْهَبُ لَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَ) الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ مَا أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَسِوَى (الْإِسْلَامِ) فِيمَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ غَيْرَ ذِمِّيٍّ وَلَا مُسْتَأْمَنٍ وَأُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، فَإِنَّ إسْلَامَهُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ.
قَالَ فِي الْإِقْنَاعِ: وَلَوْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ، أَوْ مُسْتَأْمَنٌ عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ يَعْنِي الْإِسْلَامَ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْلَامِهِ طَوْعًا، مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْكُفَّارِ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْكُفْرِ لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ حَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ إكْرَاهُهُمَا عَلَيْهِ وَيَصِحُّ ظَاهِرًا، فَإِنْ مَاتَ الْحَرْبِيُّ، أَوْ الْمُرْتَدُّ قَبْلَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ عَنْهُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْبَاطِنِ إنْ لَمْ يَعْتَقِدْ الْإِسْلَامَ بِقَلْبِهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ بَاطِنًا وَلَا حَظَّ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ فِي الْمُغْنِي: أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَقَامَ عَلَى مَا عُوهِدَ عَلَيْهِ، وَالْمُسْتَأْمَنَ لَا يَجُوزُ نَقْضُ عَهْدِهِ وَلَا إكْرَاهُهُ عَلَى مَا لَا يَلْزَمُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) : عِبَارَةُ الْفُرُوعِ: وَإِنْ أُكْرِهَ حَرْبِيٌّ عَلَى إقْرَارِهِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ قُنْدُسٍ فِي حَوَاشِيهِ، وَالْقَاضِي عَلَاءُ الدِّينِ فِي تَصْحِيحِهِ. قَالَ فِي تَصْحِيحِ الْفُرُوعِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَإِنْ أُكْرِهَ حَرْبِيٌّ، كَذَا فِي النُّسَخِ، وَصَوَابُهُ: وَإِنْ أُكْرِهَ ذِمِّيٌّ وَبَعْضُهُمْ أَصْلَحَهَا كَذَلِكَ، انْتَهَى.
وَفِي قَوَاعِدِ ابْن اللَّحَّامِ صَحَّحَ إسْلَامَ الْمُرْتَدِّ، وَالْحَرْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ إكْرَاهٌ بِحَقٍّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute