للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَرْبَهَارِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا: لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا عَرَضٍ وَلَا اكْتِسَابٍ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ الْقُوَّةُ الْمُدْرِكَةُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالْأَكْثَرُ.

وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْبَاقِلَّانِيِّ وَابْنُ الصَّيَّاغِ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيّ فَخَرَجَتْ الْعُلُومُ الْكَسْبِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ عَاقِلًا مَعَ انْتِقَاءِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَمِيعُهَا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْفَاقِدُ لِلْعِلْمِ بِالْمُدْرِكَاتِ لِعَدَمِ الْإِدْرَاكِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهَا غَيْرَ عَاقِلٍ، وَمَحَلُّ الْعَقْلِ الْقَلْبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْأَطِبَّاءِ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: ٣٧] أَيْ عَقْلٌ، فَعَبَّرَ بِالْقَلْبِ عَنْ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مَحَلُّهُ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: ٤٦] وَبِقَوْلِهِ {لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: ٤٦] فَجَعَلَ الْعَقْلَ فِي الْقَلْبِ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْقَلْبِ. نَعَمْ لَهُ اتِّصَالٌ بِالدِّمَاغِ كَمَا قَالَهُ التَّمِيمِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَتْ الْحَنَفِيَّةُ وَالطُّوفِيُّ مِنَّا: هُوَ فِي الدِّمَاغِ. وَقِيلَ إنْ قُلْنَا جَوْهَرٌ وَإِلَّا فَهُوَ فِي الْقَلْبِ. وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَخْتَلِفُ كَالْمُدْرِكِ بِهِ؛ لِأَنَّا نُشَاهِدُ قَطْعًا آثَارَ الْعُقُولِ فِي الْآرَاءِ وَالْحِكَمِ وَالْحِيَلِ وَغَيْرِهَا مُتَفَاوِتَةً، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى تَفَاوُتِ الْعُقُولِ فِي نَفْسِهَا.

وَأَجْمَعَ الْعُقَلَاءُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْقَائِلِ: فُلَانٌ أَعْقَلُ مِنْ فُلَانٍ أَوْ أَكْمَلُ عَقْلًا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى اخْتِلَافِ مَا يُدْرَكُ بِهِ، وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلنِّسَاءِ أَلَيْسَ شَهَادَةُ إحْدَاكُنَّ مِثْلُ شَهَادَةِ نِصْفِ الرَّجُلِ؟ قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا» .

وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ وَالْأَشَاعِرَةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ: الْعَقْلُ لَا يَخْتَلِفُ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَامَّةٌ يَرْجِعُ إلَيْهَا النَّاسُ عِنْدَ اخْتِلَافِهِمْ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ الْعُقُولُ لَمَا كَانَ كَذَلِكَ، انْتَهَى وَالْحَقُّ الْأَوَّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فَإِنْ قُلْت: قَدْ ذَكَرْت أَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ، فَمَا وَجْهُ قَوْلِ النَّاظِمِ أَنَّهُ يُسْتَفَادُ مِنْ مُطَالَعَةِ كُتُبِ الْعِلْمِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>