خَلِيلِي جَرَّبْت الزَّمَانَ وَأَهْلَهُ ... فَمَا نَالَنِي مِنْهُمْ سِوَى الْهَمِّ وَالْعَنَا
وَعَاشَرْت أَبْنَاءَ الرِّجَالِ فَلَمْ أَجِدْ ... خَلِيلًا وَفِيًّا بِالْعُهُودِ وَلَا أَنَا
وَقَالَ آخَرُ:
لَمَّا رَأَيْت بَنِي الزَّمَانِ وَمَا بِهِمْ ... خِلٌّ وَفِيٌّ لِلشَّدَائِدِ أَصْطَفِي
فَعَلِمْت أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ ثَلَاثَةٌ ... الْغَوْلُ وَالْعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الْوَفِيّ
قُلْت: فَإِذَا كَانَ هَذَا كَلَامُ مَنْ كَانَ فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي أَوْسَاطِهِ، وَقَدْ مَضَى بَعْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ رَسْمَ الْأُخُوَّةِ قَدْ نُسِخَ، وَعَقْدَ الصَّدَاقَةِ قَدْ فُسِخَ. فَمَا بَالُك بِزَمَانٍ وَفَاؤُهُ غَدْرٌ. وَخَيْرُهُ شَرٌّ. وَنَفْعُهُ ضُرٌّ. وَصِدْقُهُ كَذِبٌ، وَحَسَنَتُهُ ذَنْبٌ. وَصَدِيقُهُ خَائِنٌ. وَصَادِقُهُ مَائِنٌ. وَخَلِيلُهُ غَادِرٌ. وَنَاسِكُهُ فَاجِرٌ. وَعَالِمُهُ جَاهِلٌ. وَعَاذِرُهُ عَاذِلٌ. وَقَدْ صَارَتْ صَلَاةُ أَهْلِ زَمَانِنَا عَادَةً لَا عِبَادَةً، وَزَكَاتُهُمْ مَغْرَمًا يَغْرَمُونَهَا لَا يَرْجُونَ مِنْ عَوْدِهَا إفَادَةً، وَصِيَامُهُمْ كَجُوعِ الْبَهَائِمِ. وَذِكْرُهُمْ كَرُغَاءِ الْبَعِيرِ الْهَائِمِ. فَأَيْنَ هَذِهِ الْحَالَةُ مِنْ حَالَةِ مَنْ يَتَضَجَّرُ لِعَدَمِ وَفَاءِ إخْوَانِهِ، وَأَقْرَانِهِ وَأَخْدَانِهِ.
مَطْلَبٌ: قِصَّةُ الْهُذَلِيِّ مَعَ السَّفَّاحِ.
وَقَدْ قِيلَ إنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ السَّفَّاحَ كَانَ يُحَدِّثُ أَبَا بَكْرٍ الْهُذَلِيَّ يَوْمًا إذْ عَصَفَتْ الرِّيحُ فَأَرْمَتْ طَسْتًا مِنْ سَطْحٍ إلَى الْمَجْلِسِ، فَارْتَاعَ مَنْ حَضَرَ وَلَمْ يَتَحَرَّكْ الْهُذَلِيُّ وَلَمْ تَزَلْ عَيْنُهُ مُطَابِقَةً لَعَيْنِ السَّفَّاحِ، فَقَالَ مَا أَعْجَبَ شَأْنَك يَا هُذَلِيُّ. فَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: ٤] وَأَنَا لِي قَلْبٌ وَاحِدٌ؛ فَلَمَّا غَمَرَ بِمُحَادَثَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ لِمُحَادَثَةِ غَيْرِهِ مَجَالٌ فَلَوْ انْقَلَبَتْ الْخَضْرَاءُ عَلَى الْغَبْرَاءِ مَا حَسَسْت بِهَا وَلَا وَجَّهْت لَهَا قَلْبِي.
فَقَالَ السَّفَّاحُ لَئِنْ بَقِيت لَأَرْفَعَنَّ مَكَانَك. ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِمَالٍ جَزِيلٍ وَصِلَةٍ كَبِيرَةٍ فَانْظُرْ بِاَللَّهِ عَلَيْك وَاعْتَبِرْ اسْتِغْرَاقَ قَلْبِ هَذَا الرَّجُلِ وَانْغِمَارِهِ بِمُحَادَثَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ وَزِنْ بِحَالِ وُقُوفِك فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ، وَقَدْ نَصَبَ لَك وَجْهَهُ الْكَرِيمَ، وَرَفَعَ مِنْ بَيْنِك وَبَيْنَهُ الْحُجُبَ. فَهَلْ تَجِدُ قَلْبَك مُنْغَمِرًا وَمُسْتَغْرِقًا فِي جَمَالِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ كَاسْتِغْرَاقِ قَلْبِ الْهُذَلِيِّ فِي مُحَادَثَةِ السَّفَّاحِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute