معنى قوله تعالى:(ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا)
وأما قوله تعالى:{رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا}[البقرة:٢٨٦] أي: ربنا لا توقعنا في المشقة والعنت الذي لا طاقة لنا به ولا نقدر عليه.
وقوله تعالى:{كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}[البقرة:٢٨٦] أي: الأمم السابقة كانت في الإصر والأغلال؛ بسبب ظلمهم، قال الله تبارك وتعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}[النساء:١٦٠] يعني: بسبب ظلمهم حرم الله عليهم الطيبات مع أنها طيبات ولم تكن خبائث؛ لأن الخبائث محرمة من الأصل، ولكن الله تبارك وتعالى حرم على اليهود طيبات كان قد أحلها لهم في أول الأمر، فلما ظلموا حرمها عليهم من باب إيقاع الإصر والأغلال والعنت عليهم.
قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}[النساء:١٦٠ - ١٦١] وهذه الأشياء موجودة عندنا، فنحن قد ظلمنا، وطغينا، وبغينا، وتركنا الكتاب والسنة، وأكلنا أموال الناس بالباطل، وأخذنا الربا أضعافاً مضاعفة، فهناك قوانين تبيح الربا، وفتاوى تقول: إن الربا حلال، مع أن التشريع قد انتهى أمره بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الحساب ينتظر في يوم الحساب، وحسابنا عند الله عز وجل، وضرب الله علينا الذل والهوان؛ بسبب بعدنا عن الكتاب والسنة، وركوبنا الماديات، فلما ركبنا الصعب والذلول أذلنا الله عز وجل؛ لأنه صار بيننا وبين الكتاب والسنة هوة واسعة جداً، ربما الحبل الذي بيننا وبين الكتاب هو مجرد التلاوة.
ولو أن سارقاً سرق، أو زانياً زنا، يقام عليه الحد؛ لكن الحدود معطلة في هذا الزمان، والباب مقفول إلا باب التوبة، وليس من التوبة إلى الله عز وجل قتل النفس أو رميها من فوق جبل، أو شرب السم، ومن فعل هذا يكون جرماً آخر ومعصية أخرى، والانتحار يحاسب الله عز وجل عليه، وهذا هو العنت الذي فرضه الله على بني إسرائيل على جهة الخصوص، أما أنت فتوبتك أن تلجأ إلى الله عز وجل بقلبك وكليتك، وتندم على ما بدر منك، وتعزم على ألا تعود إليه مرة أخرى، ويتفطر وينصدع قلبك وبدنك حزناً وأسفاً على المعصية التي فعلتها، أما في بني إسرائيل فالذي يعمل المعصية ويريد أن يتوب منها لابد أن يقتل نفسه، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:٥٤].
يقول الحافظ ابن كثير: قام بنو إسرائيل في ساعة مظلمة من النهار أظلمها الله عز وجل عليهم، فقاموا على بعضهم بالسيوف حتى قتل بعضهم بعضاً في ساعة واحدة.
وكانوا سبعين ألفاً؛ لأن هذه طريقة التوبة التي فرضها الله عز وجل على بني إسرائيل، من أجل أن تعرف أن الله تبارك وتعالى اصطفاك، واختارك، وشرفك وكرمك في البر والبحر، فأخلدت إلى الأرض بالمعصية، وقد كلفك الله عز وجل أن تحلق روحك في السماء السابعة حول العرش، فأبيت إلا النزول فنزلت، والنزول في كل شيء أسهل من الصعود، فالصعود يحتاج إلى مشقة وكلفة، فمن أراد أن ينجح ويتفوق في آخر العام يتكبد السهر، والمذاكرة، والحفظ، والمراجعة، أما من أراد أن يرسب فما عليه إلا أن يدع الكتاب، وهذا يسير، فالنزول يسير، وأما الصعود فمكلف جداً، ولذلك ضرب الله عز وجل بسبب ظلم اليهود والنصارى الإصر والأغلال على أعناقهم، فكلفهم من الأعمال ما لا طاقة لهم به.
وقوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا}[النساء:١٦٠]، والفاء هنا سببية، أي: بسبب ظلمهم ضرب الله عز وجل الإصر والأغلال، أما أنت فقد كرمك فاشكر لله عز وجل على هذه التكريم، وشكر الله عز وجل يكون بإفراده بالعبادة، وصرفها جميعها إليه سبحانه وتعالى، لا تشرك مع الله تبارك وتعالى إلهاً آخر.
ومن أنواع الإصر في الطهارة التي أوجبها الله عز وجل على بني إسرائيل ما لا يمكن أبداً أن تتخيله، لو أن الله تبارك وتعالى فرضه علينا لما امتثل واحد منا أبداً لهذا الأمر، فالله عز وجل قد فرض على بني إسرائيل الطهارة، فإن من تنجس ثوبه قطع الجزء المتلبس بالنجاسة، أما في الإسلام فشرع لنا تطهير الثوب المتنجس بالماء، فيرش على بول الصبي ويغسل من بول الجارية، فإذا كان الغلام قد أكل لابد من غسل الموضع فقط، لا تغسل (الجلابية) كلها ولا تقرضها ولا تقطعها، أما في بني إسرائيل فكان إذا تنجس ثوب الواحد منهم وجب عليه أن يقصه، وأن يلقي بالمتنجس على الأرض، وهذا من الرحمة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن الفضل، وهذه صورة من صور التكريم في العباد