الوقفة الأولى: هي الكلام عن الخصومات، والخصومات: هي التكلف في الانتصار للرأي، والمراء والجدل بغير حق، والمماحلة والمماطلة في قبول الحق، هذا معنى الخصومة.
والخصومات شعار لأهل الأهواء، فالواحد منهم ليس ساكتاً أو مجتمعاً، بل إن أهل الأهواء متكلمون دائماً، رافعون أصواتهم ببدعتهم، وللأسف الشديد أنك تجد كثيراً من أهل الحق صامتون ساكتون، فمبنى الخصوم إذاً على التكلف والانتصار للرأي، وكذلك التشفي من الخصم والنيل من عرضه، وتنحل الحجج والأدلة، فهي أعظم أبواب الشبهات، وهي كذلك تفتح أبواب الشيطان على صاحبها؛ لأن الأصل في الخصومات: الانتصار للرأي، وليس الانتصار للدين.
ولذا نجد أن أهل السنة لهم منهج مع خصومهم، فإذا ماحل الخصم وخاصم وجادل؛ فإنهم لا يسترسلون معه، إنما يكتفون بإظهار الحجة والإتيان بالبرهان، ثم يدعونه وينصرفون.
بل كثير منهم لم يتكلم في بدعة إلا بعد أن انتشرت، وإن رأوا أن البدعة ما دامت قاصرة على صاحبها؛ فليس من مصلحة عامة الناس أن تظهر، ولا تظهر إلا بقول إمام مبرز فيها؛ ولذلك يعرض كثير من أهل العلم بأنفسهم عن أن يتكلموا في بدعة ما، حتى ظهرت وأطلت بقرونها على العامة، فصارت على كل لسان، ودخلت في كل قلب، حينئذ يتصدون لبيان هذه البدع.
وصاحب البدعة والهوى إذا أراد الحق فإنما يكفيه لذلك بيان الدليل وصحته، والدليل الواحد، لكن صاحب الهوى في الغالب لا يكفيه دليل واحد، تقول له: قال الله تعالى: يقول لك: ثم ماذا قال؟ فتقول: وقال الله وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لك: حجتك ضعيفة! فالدليل الواحد كافٍ، لكن الدليل عند أصحاب الأهواء لا يقوم ولو من مائة طريق، لأن في قلبه ظلمة منعته أن يقبل هذه الأدلة، وربما هو لم يسمعها ولم يعقلها من قبل، وصدق ابن عباس رضي الله عنهما حيث يقول: وإن للمعصية ظلمة في القلب، وسواداً على الوجه.
فصاحب الهوى إن كان مريداً للحق ولم يتمكن هواه من قلبه يكفيه دليل واحد صحيح وصريح، وإذا قبل الدليل ثم رجع فيه وتردد وتحير فاعلم أنه باق على هواه، وهذا لا ينسحب على الجاهل الذي قامت الشبهة لديه، فهو يسأل ويستعيد المسئول ويطلب منه الجواب، وإعادة الدليل مرة أخرى، وثانية وثالثة، فلا حرج عليه في ذلك ما دامت الشبهة بعد عالقة بذهنه وقلبه، فلا حرج عليه أن يسأل حيث جهل، حتى ولو استعاد المسألة مرات متعددة، واستبانه في الدليل الواحد أكثر من مرة؛ لقيام الشبهة لديه.