[بدء النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وأهله في تنفيذ أحكام الله تعالى لتحقيق الأسوة]
قال: (ودماء الجاهلية موضوعة)، وبدأ بنفسه عليه الصلاة والسلام؛ ليحقق القدوة والأسوة، لأنه القائل - كما في مسلم -: (أما لكم في أسوة).
وعند أحمد: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من اقتدى بي فإنه مني) أي: من هديي وسنتي وطريقتي.
قال عليه الصلاة والسلام: (وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث) وهو إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وقصته: أنه كان طفلاً رضيعاً، وعلى عادة العرب حملته قريش إلى بني سعد ليرضع هناك، فإذا أتم مدة الرضاعة رجع إلى قومه وأهله، فقتلته هذيل، فقامت قريش بأسرها تطالب بدم هذا الطفل الرضيع قتل قبيلة هذيل بأسرها، فهل هذا دين؟ وهل هذه أخلاق؟ رجل أو طفل أو امرأة قتل على سبيل الخطأ ليس له إلا الدية، وديته على العاقلة، وليست على القاتل؛ لأنه قتله على سبيل الخطأ.
وهكذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجو الملبد بالمعاصي والأعراق البالية، وقد قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، فوجد حروباً بين الأوس والخزرج؛ بسبب ناقة نزلت أرض الغير فأكلت منها، فقامت بين القبيلتين حروب طاحنة على مدار أربعين عاماً، ربما ذهب فيها العشرات، أو المئات، أو الألوف.
وفي الصحيح: (أن رجلاً من المهاجرين كسع رجلاً من الأنصار فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! واصطف الفريقان للقتال، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام ومشى بين المهاجرين والأنصار، ثم قال: دعوها فإنها منتنة).
أي: هذه الدعوة دعوة الجاهلية دعوها فإنها منتنة، فقد كان الناس يجتمعون للقتال بسبب ناقة، ولا يدري الناس الذين اجتمعوا لماذا الحرب، وعلى ماذا الحرب والقتال وإراقة الدماء؟ فكانوا في الجاهلية يقولون بظاهر النص: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً).
فلما جاء الإسلام بين النبي عليه الصلاة والسلام أن نصر الظالم كفه عن الظلم، نعم هذا هو الدين الذي نزل من السماء دين الحق والعدل، دين المحبة والسلام؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:١٧٩].
ومع أنه موت، وإراقة للدماء، وإقامة للحدود؛ لكن من قتل يقتل دون سواه، ولا تزال بعض الأعراف الفاسدة قائمة في بلاد الإسلام، خاصة في صعيد مصر، أن من قتل واحداً من قبيلة أخرى أو من عائلة أخرى يطالبون بأغلى الدماء في عائلة القاتل، ولا يطالبون بقتل القاتل، فيختارون ويمتازون من أسرة القاتل أفضل الناس، فهل هذا دين؟ وهل هذا عدل؟ ومنهم من يقول: قتيلي بعشرة، قتيلي بمائة، قتيلي بألف، وهذه الكلمات محفوظات ومسموعات في الصعيد وغيره، وهذا كله تحاكم إلى أخلاق الجاهلية، وعادات الجاهلية.
فاحذروا أيها الإخوان! بارك الله فيكم.
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وإن كل رباً موضوع، وإن أول رباً أضعه ربانا ربا عباس بن عبد المطلب).
فانظروا كيف يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه أولاً قبل أن يقول الناس: لم حرم علينا كذا، وأحل لأهله وأحل لقومه وعشيرته وقبيلته؟ فالأسوة أن يبدأ المرء بنفسه.
والقدوة أن يدعو الإنسان الناس بعمله، لا بقوله فحسب، فلابد أن يرى الناس منك الخير والصلاح والاقتداء والأسوة.
فيا معشر الطلاب! ويا معشر الدعاة إلى الله! ويا معشر طلاب العلم! ادعوا الناس بأعمالكم وأخلاقكم، فإنكم لا تدعونهم بأموالكم ولا بألسنتكم، إنما تدعونهم بأعمالكم، فلأن تدعو الناس بعملك خير بألف مرة من أن تدعوهم بقولك، وتخالفهم بعملك.
ولذلك في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار في الرحى، ويجتمع عليه الناس فيقولون: يا فلان! ما بالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى.
كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
وقال عليه الصلاة والسلام: (أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة).
ولو سكت النبي عند هذا القول لقلنا: إن هؤلاء هم أصحاب الكبائر الموبقات المهلكات، ولكن المفاجأة أن النبي عليه الصلاة والسلام يحذر ثلاث فئات من الخلق أنهم أعظم الناس على الإطلاق، فقال عليه الصلاة والسلام: (العالم، والمجاهد، والجواد) ثم بين سر ذلك في بقية الحديث: أن العالم تعلم العلم لغير الله، ودعا الناس ليقال: عالم، وهذا جاهد ليقال: مجاهد، وذاك أنفق ليقال: جواد (فيسحبون على وجوههم) سبحانك ربي! رأينا السحب على الظهر والبطن والجنب، أما الوجه فما رأيناه!.
(فيسحبون على وجوههم حتى يلقوا جميعاً في النار)، فيكونون وقودها لأول وهلة.
فيا أيها الإخوان! عل