[ترك الاستخفاف بالإخوان]
ومنها: ترك الاستخفاف بالإخوان، ومجالس الفساق كلها استخفاف واستهزاء وضحك لا قيمة له، وقلة عقل وتفاهة في الأسلوب والنقاش والتفاهم، وكل ذلك من أردأ أنواع الخلق، فاعرف كل واحد منهم لتكرمه على قدره؛ لأن الإسلام أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وكل واحد له في الإسلام منزلة، فلا يساوى في الإكرام وفي المنزلة بين العزيز وبين الذليل، ولا بين صاحب الطاعة وبين من خلط طاعته بمعصية، فكل له قدره، والاستخفاف بأهل العلم ليس كالاستخفاف بغيرهم، قال ابن المبارك: من استخف بالعلماء ذهبت آخرته؛ لأن العلماء هم الذين يدلونك على الآخرة، فإن استخففت بهم خزنوا عنك علمهم، فخضت في العماية والجهالة والحيرة، حتى لا تدري أين تضع قدمك.
وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف من خيار التابعين، وكان في خلقه حدة، وقد كان تلميذاً لـ ابن عباس ولكنه كان يغلظ له، فلما مات ابن عباس وبرز سعيد بن جبير ومجاهد بن جبر وغيرهما من تلاميذ ابن عباس الذين عرضوا القرآن عليه مرات ورأى ذلك أبو سلمة قال: سبحانك ربي! لو أني رفقت بـ ابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيراً.
ولكن حدته وسوء خلقه ضيعته عن شيخه، فخزن عنه العلم، ولذلك ورد عن كثير من السلف التحذير من ذلك، وذكر ذلك ابن عبد البر والخطيب البغدادي في كتبهم التي تكلمت عن أحكام الرواية وآدابها، كجامع بيان العلم، والفقيه والمتفقه، والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وذكروا أبواباً كثيرة في الآداب التي يتحلى بها الطالب مع شيخه، وكيف يستخرج ما عند شيخه من علم بحسن الأدب والسمت والهدي والذل والأخلاق، أبو سلمة ندم ندماً شديداً على أنه لم يتأدب مع ابن عباس.
يقول مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير، كل منهما يقول: وإني كنت أحصل على المسألة من ابن عباس ولو أذن لي أن أقبل قدمه لفعلت.
فانظروا وقارنوا بين موقف هذين وبين موقف أبي سلمة.
ولذلك كان كثير من السلف إذا دخل في المجلس من يكرهه يقول: إما أن تنصرف، وإما ألا أحدثكم اليوم ولا غداً.
وكان إسماعيل بن أبي عياش والفضيل ورجاء بن حيوة وابن عون ومالك والشافعي وابن عيينة والثوري يهابون في مجالس العلم أعظم من هيبة الأمير، حتى كان لا يبرى قلم، ولا تقلب ورقة، ولا يضحك ولا يبتسم في مجالسهم، ولذلك ورد عن الأعمش أنه كان يملي في مجلس فإذا قال: حدثنا فلان سمع همهمة فقال: السماء تمطر؟ قالوا: لا، فيسكت ثم يقول: حدثنا فلان، فيسمع همهمة، فالكل يحدث بعضهم بعضاً: حدثنا فلان ويسكت، فيسمع من مجموع الأصوات كأن السماء تمطر فيقول: السماء تمطر؟ فيقولون: لا، فيقول: بل تمطر.
فينظر كل واحد منهم إلى سقف المسجد فيقولون: لا تمطر يا شيخ! فيقول: إذا سمعت مطر السماء قمت عنكم لا أرجع إليكم إلا بعد شهر.
ورجاء بن حيوة لما ضحك أحد في مجلسه قال: أتطلب العلم وأنت تضحك؟! فقال: يا إمام! أليس الله تبارك وتعالى قال: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:٤٣]؟ يعني: يريد أن يقول له: الضحك هذا بقدر الله عز وجل، فهو الذي أضحكني، فيقول له: إذاً: ابك، فقد قال الله: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:٤٣].
ثم انطلق رجاء ولم يعد إليهم إلا بعد شهر بشفاعة الشافعين.
فهناك آداب ينبغي أن يتحلى بها الطالب؛ حتى يحصل على العلم.