للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الاختلاف على الأنبياء]

قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:٦٣] أي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣].

أتى رجل إلى الإمام مالك في مسجد المدينة وكان محرماً فقال مالك: ما هذا؟ قال: أحرمت بالنسك.

قال: ميقات أهل المدينة ذا الحليفة، قال: ما هي إلا فراسخ بيننا وبين ذي الحليفة، قال: إني أخشى عليك الفتنة.

قال: أي فتنة في هذا؟ قال: أما قرأت قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:٦٣]؟ انظروا إلى فهم إمام أهل المدينة وإمام المسلمين في زمانه لمبدأ المخالفة للنبي عليه الصلاة والسلام، حتى وإن كانت يسيرة، فمهما دقت المخالفة لا بد أن تدفع الأمة ثمنها.

وسمع رجل النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا.

فقام إليه فقال: يا رسول الله! الحج كل عام؟ فأشاح النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه ولم يرد عليه، فأعاد الرجل فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأعاد الثالثة، فقال: لو قلت: نعم.

لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم).

كان هذا سبباً لهلاك أمة من الأمم، فقد هلك اليهود الذين اختلفوا على موسى عليه السلام في أمر البقرة وغيرها من الأمور حتى عبدوا العجل من دون الله عز وجل، ولما رآهم موسى عليه السلام غضب غضباً شديداً وألقى الألواح من يده، فلما سكن غضبه أخذ الألواح واستغفر ربه وأناب إليه وتاب.

أيها الإخوة الكرام! لا بد لهذه الأمة أن ترجع كما كان شأن الصالحين من قبلنا، وكما كان شأن السابقين الأوائل من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، ما كانت المعصية تقع من الواحد منهم إلا ويبادر قبل دخول ليله بالتوبة إلى الله عز وجل، ومن محاسبة نفسه أولاً بأول، وقد ثبت أن عمر أمير المؤمنين قال: أريد أن أخرج منها على الكفاف لا لي ولا علي.

هذا الذي كان يحاسب نفسه في مدخل كل ليلة فيؤدبها ويضربها بالدرة التي كانت في يده، وهو من هو في العدل والفضل والإمامة والجهاد في سبيل الله عز وجل، هو الذي فتح الله تعالى به البلاد وقلوب العباد، هو الفرقان الذي فرق الله به بين الحق والباطل، ومع هذا كان يحتقر كل ذلك في جنب الله عز وجل.

أما نحن مع قلة أعمالنا وهواننا إلا أننا نستعظم العمل جداً وهو قليل بسيط، وهو لا يكاد ينفعنا بين يدي الله عز وجل، ومع هذا نقول: هذا العمل كثير والحمد لله، ماذا يريد الله منا؟ نحن نصلي ونصوم ونزكي ونحج، نعم.

رغماً عنا نزكي، ورغماً عنا نحج، ونعتبر الزكاة مغرماً لا مغنماً، لكن على أية حال: نحن بخير.

قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي! لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين، من أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، ومن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة).

(لا أجمع على عبدي أمنين ولا خوفين) أي: في الدنيا وفي الآخرة، إما هذا وإما ذاك، فلا بد لهذه الأمة أن تعمل بخوف الله تعالى وبالرجاء فيه بعد العمل، ولذلك لما قرأت عائشة رضي الله تعالى عنها قول الله عز وجل: ({وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:٦٠] خائفة.

{أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:٦٠] قالت: يا رسول الله! أهذا الزاني يزني والسارق يسرق؟ قال: لا، يا ابنة الصديق! إنما هؤلاء أقوام أتوا بصلاة وصيام وزكاة وجهاد يخافون ألا يتقبل منهم)، يخافون بعد العمل ألا يتقبل منهم، فهم يرجون رحمة الله بعد العمل.

وأما نحن فنرجو رحمة الله، ونتكل على رحمة الله بدون عمل، وهذا اغترار بالله تعالى، إذا رأيت الرجل يرجو الله بعد العمل فاعلم أن هذا هو الرجاء الصحيح، وإذا رأيته يرجوه تاركاً للعمل، فاعلم أن هذا العبد مغتر بستر الله تبارك وتعالى عليه، وأن هذا الرجاء إنما هو الرجاء المزيف، وهو الغرور بالله تعالى، والأمن من مكر الله.

لابد لهذه الأمة أن تعمل بالخوف والرجاء معاً، ولا بأس أن تغلب جانب الخوف كما غلبه نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو من هو في فضله وشرفه عليه الصلاة والسلام، ومع هذا (كان يقوم من الليل حتى تورمت وتفطرت قدماه، فقالت عائشة: يا رسول الله! أليس قد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) أبعد هذا كله ألا يستوجب ما ذكرتِ يا عائشة أن أؤدي شكر هذه النعم التي أنعم الله بها علي؟! فكانت عبادته عليه الصلاة والسلام عبادة شاكر لله عز وجل.

في هذه الأمة لا يكاد عالم من العلماء يقول قولاً إلا ويقوم إليه أحد المستمعين من المسلمين المصلين ويقول له: أنا ل

<<  <  ج: ص:  >  >>