[تقدير عقوبة الحد دون عقوبة التعزير]
أما أوجه الخلاف بين الحد والتعزير فأول هذه الأوجه: أن عقوبة الحد مقدرة ومحددة شرعاً لا تزيد ولا تنقص، فمثلاً: أن الشرع حد للسكر ثمانين جلدة، فهل يتصور أن يضرب السكران خمساً وثمانين؟ لا يمكن ذلك، فإن هذا تعد من الذي يقيم الحد، كما أنه ليس بإمكانه أن يضربه سبعين فقط، ولكن إن ضربه سبعين أو ستين، أو أقل من ذلك ثم مات عند تلك الضربات؛ فإنه يحرم عليك بعد ذلك أن توفي معه بقية الحد؛ لأنه قد مات.
وأما إذا لم يمت فوجب إتمام الحد عليه، ولا تأخذك الشفقة ولا الرأفة ولا الرحمة به، لماذا؟ لأنه لم يرحم نفسه، وهو الذي عرض نفسه لغضب الله عز وجل، كما أن الرحيم الرءوف هو الذي حد له ذلك، وأوجب عليه هذا العدد، فلا يجوز النقصان منه، ولا الزيادة فيه.
فحد الله تبارك وتعالى مقدر، ومحدد شرعاً دون زيادة ولا نقصان.
أما التعزير فعقوبته غير مقدرة شرعاً، وإنما تدور ما بين الواحد والعشرة، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يجلد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله تعالى)، أو كما في الحديث، يعني: لا يعزر بأكثر من عشر، فالعشرة إنما هي حد بين التعزير وبين الحد.
والواحد منا أحياناً ينقض على امرأته أو ولده فيضربه على وجهه -وهذه مخالفة أخرى- أكثر من عشر ضربات، فلو أنه راجع نفسه واتقى ربه، ووقف عند حده؛ لعلم أنه قد ضرب ولده بما يستوجب حداً دون أن يختلف الحد.
وهذا تعد وإجرام في الأولاد، ولذلك ينبغي ضبط النفس عند تربية الزوجة، وتربية الأولاد، وتربية العبيد؛ لأن الأب له أن يعزر ولده، والزوج له أن يعزر زوجه، والسيد له أن يعزر عبده، ولكن في الحدود التي أمر الله تبارك وتعالى بها، وسمح بها النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يجوز للرجل أن يزيد عما حدده الله وقدره.
ولذلك لا يلزم في التعزير أن تضرب العشرة، وإنما إذا انزجرت الزوجة بعصاً واحدة فلا يجوز ضربها الثانية، وإن انزجرت باثنتين لا يجوز ضربها الثالثة، وكذلك الولد والعم؛ فإن العقوبات إنما هي رادع بسيط ومبدئي لرد العاصي إلى فطرته، فإذا انزجر من أول التأديب فلا يجوز أبداً الزيادة فيه، وإذا انزجر من وسطه فلا يجوز التعدي، وإن لم ينزجر إلا بإتيان التعزير كاملاً وجب ضربه حتى التعزير كاملاً، وهو عشر ضربات.
وقد ترك الإسلام لولي الأمر ذلك، وولي الأمر سواءٌ كان الأب، أو الحاكم، أو الزوج، فقد ترك الإسلام لهؤلاء وهم ولاة الأمور تقدير حد التعزير دون أن يقرر لهم عدداً معيناً، ولكنه حد لهم عدداً معيناً لا يزيدون عنه، ولا يلزم من ذلك أن يأتوا إلى نهاية هذا الحد، وإنما الأمر كما قررنا آنفاً.
هذا هو الفارق الأول بين الحدود وبين التعزيرات.