بعد هذا الموقف اجتمع أصحاب السوء وبطانة السوء إلى الملك فقالوا: أرأيت أيها الملك! لقد نزل بك ما كنت تحذر، لقد آمن الناس، فانظر ماذا ترى.
قال:(خدوا لهم الأخاديد في أفواه السكك) أي: في أطراف الطرق احفروا لهم حفراً عظيمة وأججوا فيها النار، وانظروا من رجع منهم عن دينه فقد نجا من تلك النيران، ومن أبى فاقذفوه فيها، ففعلوا ذلك، فتتابع الناس إلى النيران، وكان الملك يظن أن الناس إذا رأوا ذلك هربوا، ولكنه فوجئ بأمر لا يتوقعه، فوجئ بأن الناس يقتحمون النيران حفاظاً على عقيدتهم ودينهم وتوحيدهم الذي لم تخالط بشاشته تلك القلوب إلا للحظات يسيرة، ولكنهم كانوا من الإخلاص والصدق في المحل الأعظم.
الناس كلهم يشتركون في الموت، ولكن الناس جميعاً لا يشتركون في المجد، فمنهم من يختار طريق المجد وهم قلة، وكثير من الناس ينظر إلى زهرة الحياة الدنيا ينظر إلى بقائه وحياته وإن عاش ذليلاً مهيناً، ولا يختار ميتة شريفة إلا من يعلم شرف الموت في سبيل الله عز وجل.
لقد كان موقف أهل الملك وأتباع الملك آنفاً أن آثروا الدخول في هذه النيران على انحرافهم عن عقيدة التوحيد.
مثلهم مثل سحرة فرعون الذين خروا لله سجداً بمجرد أن علموا أن موسى ليس ساحراً، وإنما هو رسول من عند الله، ولذلك قال لهم فرعون ذاك الطاغية الجبار العنيد:{آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}[طه:٧١] وصار يتوعدهم ويتهددهم؛ لأنهم آمنوا بالله عز وجل.
فالمعركة منذ أن خلق الله تعالى الخليقة إلى قيام الساعة معركة إيمان وكفر، ولذلك اعتقاد أهل الإسلام جميعاً وكل أتباع الأنبياء والمرسلين: أن الفوز والنصر فيها لأهل الإيمان، يدل على ذلك بقاء الإيمان وظهوره إلى هذا اليوم، وسيكون كذلك إلى قيام الساعة بإذن الله تعالى.
فخد لهم الأخاديد وألقاهم في النار، فتدافعوا إليها، إلا ما كان من امرأة معها صبي على صدرها، فتقاعست وتراجعت وخافت أن تلقي بنفسها ووليدها في النار، فنطق الغلام وقال:(يا أماه! اصبري فإنك على الحق)، نطق الغلام ناصحاً أمه أن تصبر، وأن تقذف نفسها وإياه في النار فإنها على الحق.
فتبين من هذا أن عدة النصر الصبر، (ولكنكم قوم تستعجلون).