[الرقية بالفاتحة]
قال رحمه الله: [وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: (انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها)، والنفر هم: الجماعة من الناس، أو الرهط من الناس، ويكونون من الثلاثة إلى العشرة.
قال: (حتى نزلوا على حي من أحياء العرب فاستضافوهم)، أي: أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أرادوا أن ينزلوا في ضيافة هذا الحي من أحياء العرب، قال: (فأبوا أن يضيفوهم)، أي: رفضوا ضيافتهم، قال: (فلدغ سيد ذلك الحي)، أي: لدغته عقرب، قال: (فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء)، أي: طلبوا له العلاج بكل سبيل فما أفلحوا.
قال: (فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا)، أي: الذين نزلوا في ضيافتكم أو قريباً منكم قال: (لعله أن يكون عند بعضهم شيء)، أي: شيء من العلاج.
قال: (فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط! إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: نعم، والله إني لأرقي)، أي: أنا أستطيع أن أستخدم الرقية، ولا علاج لسيدكم إلا هذا.
قال: (ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لي جعلاً)، أي: تجعلوا لي حظاً ونصيباً.
قال: (فصالحوهم على قطيع من الغنم)، أي: اتفقوا معهم على أنه لو برئ أخذوا منهم قطيعاً من الغنم.
قال: (فانطلق يتفل عليه)، أي: يتفل على ذلك السيد الذي لدغ، والتفل هو النفخ الذي معه شيء يسير جداً من الريق.
قال: (ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:٢])، أي: ليست هذه الآية فحسب، بل يقرأ بفاتحة الكتاب كلها.
قال: (فكأنما نشط من عقال)، أي: كأن هذا السيد محبوس ومربوط ومقيد من قدمه في حال مرضه، فلما قرئت عليه الفاتحة انطلق يمشي، وهذا كناية عن ذهاب الداء تماماً والبرء إلى أكمل حد.
قال: (فانطلق يمشي وما به قلبة)، أي: وما به علة ولا آفة.
قال: (فأوفوهم جعلهم الذي صالحوهم عليه)، أي: أعطوهم القطيع من الغنم.
قال: (فقال بعضهم: اقتسموا)، أي: دعونا نوزع الغنائم هذا المال.
قال: (فقال الذي رقى: لا نفعل حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان)، وهذا أدب جم، أي: الرجوع إلى الإمام والعالم دائماً ليفتي في هذه المسائل.
قال: (فننظر ما يأمرنا، فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك، فقال: وما يدريك أنها رقية؟)، وكأن النبي استعجب جداً أن يلهم أحد أصحابه أن الفاتحة رقية، مع علمه عليه الصلاة والسلام، بأنها رقية، وإنما علم صاحبه أنها رقية لأنها من القرآن، بل هي أم الكتاب، وإذا كان الكتاب والقرآن فيه شفاء وهدىً ورحمة للمؤمنين فهذا يدل على أن الفاتحة من باب أولى.
وبعض القرآن أعظم من بعض، وكلام الله عز وجل كله عظيم، لكن بعضه أعظم من بعض، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لـ أبي بن كعب أبي المنذر: (يا أبا المنذر! أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟)، وهذه دلالة واضحة على أن بعض القرآن أعظم من بعض.
قال: (فقلت: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:٢٥٥] إلى آخر آية الكرسي.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ليهنك العلم أبا المنذر)، أي: هنيئاً لك العلم، قد أصبت جواباً على السؤال، وأعظم سورة في القرآن على الإطلاق: سورة الإخلاص، لأن كل جزئياتها احتوت على توحيد الله عز وجل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:١ - ٤]، فهي أعظم سورة تكلمت عن ذات الله تعالى، وعن أوصاف الله تعالى، وعن أسماء الله تعالى.
قال: ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (قد أصبتم)، أي: أحسنتم أنكم رقيتم بالقرآن وبفاتحة الكتاب.
قال: (اقتسموا واضربوا لي معكم سهماً)، فانظر إلى هذه المشاركة النبوية في أسهم العلاج، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يشارك، وإنما قال: (اضربوا لي معكم بسهم) من باب المشاركة الوجدانية للدلالة على صحة العمل، وأنه لا شبهة فيه.
وفي الحديث فائدة عظيمة جداً، وهي: جواز أخذ الأجرة على القرآن، وجواز أخذ الأجرة في التداوي والتطبيب، وجواز أخذ الأجرة في التعليم والتعلم، وكل ذلك جائز بلا خلاف بين أهل العلم، ولذلك: (أتت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالت: يا رسول الله! وهبت لك نفسي، فأعرض عنها، فأعادت عليه ثلاث مرات، فقال رجل من أص