[الآثار الواردة في التحذير من اتباع الهوى]
كذلك وردت آثار كثيرة جداً عن النبي عليه الصلاة والسلام وعن أصحابه الكرام، وعن الأئمة المتبوعين، وأئمة الدين ومشايخ الإسلام في كل زمان ومكان من التحذير من اتباع الهوى: فعن مجاهد بن جبر المكي تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما أدري أي النعمتين علي أعظم -أي: أنا لا أعرف أي النعمتين أنعم الله تعالى علي بهما أعظم من الأخرى- أن هداني للإسلام -أي: أن جعلني مسلماً- أو عافاني من هذه الأهواء؛ لأنها نعمة عظيمة جداً.
والشعبي عامر بن شراحيل رحمه الله يقول: إنما سمي الهوى بهذا الاسم؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار.
وهذا يدل على أن الاتباع يرتفع بصاحبه في أعلى عليين على خلاف الهوى، ولا يستوي المتبع للأثر والمتبع لهواه، فإن الأول في أعلى عليين، والثاني في أسفل السافلين، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
وهذا حديث عظيم جداً، ولو أراد الشارح شرحه لاستوعب فيه محاضرة بأكملها، وقد خصه بعض أهل العلم بالتصنيف، فقالوا فيه كلاماً عجيباً جداً يعجب منه المرء، ويعجب من ثراء هذه الشريعة بعلمائها وبأدلتها ونصوصها وحججها، فقال النبي عليه الصلاة والسلام ضارباً المثل لمن حرص على أن يكون ثرياً ذا مال، أو أن يكون في القوم صاحب وجاهة وشرف حتى يشير إليه الناس أنه صاحب علم، وصاحب فتوى، وصاحب كيت وكيت.
فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن من الناس من يحرص على أن يأخذ المال من حل وحرام، ويبحث عنه ويلهج في تحصيله، ومنهم من يحرص على أن يشار إليه بالبنان، وأن يكون مبرزاً في الناس.
فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن هذين الرجلين أفسد للدين وللأمة من ذئبين ضامئين دخلا في زريبة غنم فأفسدا ما فيها من غنم، فقال عليه الصلاة والسلام بأسلوبه النبوي الجميل: (ما ذئبان جائعان) وما بمعنى: ليس، (ما ذئبان جائعان أرسلا) أي: دخلا في زريبة غنم بأفسد لها من ماذا؟ (من حرص المرء على المال والشرف لدينه).
فكم من واحد في الأمة الآن يحرص على جمع المال، وإن كان على حساب دينه، كم من واحد الآن ممن تصدر للدعوة إلى الله وتصدى لها، كم من واحد منهم أخلص في هذا لله عز وجل؟ سفيان الثوري -وهو من هو في الإمامة والفضل والعلم والإخلاص لله عز وجل- يقول: والله لقد طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله.
والسلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم تورعوا أن يقولوا: إنهم قد أخلصوا لله عز وجل في أعمالهم وأقوالهم، وأنت لو سألت صعلوكاً من الصعاليك الآن أو طويلب علم: لماذا تطلب العلم؟ لبادر بقوله: أطلبه مخلصاً لله عز وجل، وكأنه يزكي نفسه على الله، ولا يتورع ولا يتراجع، ولا يتردد ولا يخبت إلى ربه، وإنما يبادر بقول لو سمعه السلف لأنكروه غاية الإنكار، فكلهم يدعي أنه كان منافقاً، وكلهم يدعي أنه بعيد عن الحق، وكلهم يدعي أن الناس لو أخذوا علمه ثم لم ينسب إليه منه حرف واحد؛ لكان ذلك أدعى لقبول هذا العمل عند الله عز وجل، هذا الشافعي رحمه الله تعالى يقول: وددت لو أن الناس أخذوا ما عندي من علم، ثم لم ينسب لي منه حرف واحد، يتمنى لو أن الناس يتعلمون العلم، ولكن في النهاية لا يقولون: علمنا الشافعي.
وأما نحن فإننا نحرص كل الحرص على أن نثبت مشيختنا وأستاذيتنا وتكبرنا وغير ذلك من الأمراض الدفينة، التي تخرج مرة على تقسيمات الوجه ومرة في المشية ومرة في الجلسة، ومرة بالقول، ومرة يخزنها المرء في قلبه حتى يتحين الوقت المناسب؛ ليبثها للسامع، وهذا يتنافى مع الإخلاص لله عز وجل؛ ولذلك سر الانتصار عند السلف: أنهم أخلصوا لله عز وجل واتبعوا الهدي.
وسر تأخرنا: أننا فقدنا الإخلاص إلا ما ندر، وإلا ما رحم الله عز وجل، وأعرضنا عن الكتاب والسنة، واتبعنا أهواءنا.
وقال أبو برزة رضي الله عنه: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى).
والهوى كله ضلال، ولكنه قال: (إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم - أي: أكل الحرام - وفروجكم - الوقوع في الفاحشة- ومضلات الهوى) أي: مضلات الفتن.
وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإنه يخرج في أمتي قوم يهوون هوى) أي: يكونون أصحاب هوى: (يهوون هوى، يتجارى بهم ذلك الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً إلا دخله).
انظر إلى هذا الحديث؛ حتى تعلم أن الأمة وصلت إلى هذه الحال التي قررها النبي عليه الصلاة والسلام منذ عدة قرون، قال: (ألا وإنه سيخرج في أمتي قوم يهوون هوى) أي: يكونون أصحاب هوى، (تتجارى بهم هذه الأهواء) أي: تتمادى هذه الأهواء (كما يتجارى الكلب بصاحبه