[قصة موسى عليه السلام مع الخضر وما فيها من العظات والعبر]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد خرج موسى عليه السلام مع غلامه قاصداً ملاقاة الخضر ليتعلم منه، فلما وصلا إلى جنب صخرة نام موسى ونام غلامه، وكانت عند هذه الصخرة عين تنضح ماءً يسمى ماء الحياة، وكان لا يصيب هذا الماء شيئاً ميتاً إلا أحياه الله، فأصاب ذلك الماء الحوت الذي كان مع موسى وغلامه، فنفخ الله تعالى فيه الروح، فاضطرب في المكتل حتى نزل البحر، وسلك فيه طريقاً سرباً، وحينئذ أمسك الله تعالى عليه جارية الماء، فكان مثل الطاق في البحر، ماء جامد كالطريق المسلوك في البحر، فلما استيقظ موسى عليه السلام أخذ فتاه وانطلقا، فسارا ليلتهما حتى أصبحا، وبلغه الجهد، فقال موسى لغلامه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف:٦٢].
ولم يبلغ النصب والتعب بموسى إلا بعد أن تجاوز المكان الذي أمر أن يصل إليه وهو لا يدري.
فقال له الغلام: هل لنا أن نرتد على آثارنا، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، وكان هذا الغلام قد أدرك أن الحوت المالح الذي اتخذه موسى عليه الصلاة السلام؛ ليكون زاداً وطعاماً له في الطريق، قد رد الله تعالى إليه روحه، ونزل البحر، ولكنه قال: إذا استيقظ موسى أخبرته بذلك، ولكنه نسي ذلك؛ ليتم ما أمر الله عز وجل به، فرجعا وارتدا على آثارهما قصصاً، يعني: كل واحد منهما رجع وهو يتحسس الطريق ويتتبعه، حتى يرجعا إلى نفس المكان ولا يخطئانه.
قال موسى عليه السلام: فلما رجعنا إلى الصخرة وجدت عبداً عندها مسجىً، طرف ثيابه عند قدمه، والطرف الآخر عند رأسه، قلت: السلام عليكم.
فرد علي السلام، ثم قال: وأنى بأرض السلام -أي: وكيف عرفتم السلام؟ كأنه لا يعرفه إلا نبي- قال: أنا موسى قال: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
قال: إنك على علم علمكه الله عز وجل لا أعلمه، وأنا على علم علمنيه ربي أنت لا تعلمه، ما شأنك؟ قال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:٦٦] قال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف:٦٨].
أي: أنك لا تصبر على هذا العلم، قال موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف:٦٩ - ٧٠].
فانطلقا في رحلتهما على ساحل البحر، فكلما مرت سفينة مرت دون سؤال، حتى مرت أجمل وأزين سفينة في البحر، وكانت لمساكين، فعرفوا الخضر فقالوا: ذاك العبد الصالح، فحملوهما بغير أجرة، خدمة للعلماء وأصحاب الفضل، وذوي الوجاهات، ولا حرج في ذلك ألبتة، فحملوهما بغير نول، فلما كانا في السفينة فوجئ موسى عليه الصلاة والسلام بأن الخضر اقتلع لوحاً من السفينة، وصار يعالج مكان اللوح، إما بقارورة دكها في الموضع، وإما بالقار وهو المعروف بالزفت.
فقال موسى عليه السلام للخضر حينئذ: قوم حملونا بغير نول، وأكرمونا ثم تفسد لهم السفينة، لقد جئت شيئاً إمراً؟! أي: هذا أمر عجيب، ويكاد يكون منكراً، قال الخضر: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف:٧٢ - ٧٣].
قال النبي عليه الصلاة والسلام: (فكانت الأولى من موسى عليه الصلاة والسلام نسياناً).
والبخاري عليه رحمة الله لما أخرج هذا الحديث في بعض مواطن الصحيح تحت (باب العذر بالجهل والنسيان) وأغنى عن ذلك قول الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:٢٨٦].
وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه) وهو حديث حسن.
فحينئذ اعتبر الخضر عليه السلام العذر في حق موسى لأجل النسيان، فلما نزل من السفينة وجدوا غلماناً يلعبون، وفيهم غلام هو أجملهم وأظرفهم وأحسنهم منظراً، فامتدت إليه يد الخضر، فاقتلع رقبته من بدنه وألقاها.
وهذا الموقف موقف مهول، لا يقدر عليه أحد، ولذلك لم يصبر عليه موسى قال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:٧٤] أي: ما جريمة هذا الغلام حتى تقتله يا خضر؟ ماذا فعل؟ بل إنه أجمل الغلمان وأحسنهم: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [الكهف:٧٥] قال له موسى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:٧٤]، أي: هذا أمر لا يصبر عليه أحد، ولكن الخضر أعطاه فرصة ثالث