[الدليل الثاني عشر]
الآية الثانية عشرة: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:٧]، ومعية الله عز وجل معية عامة ومعية خاصة، ومعية الله عز وجل العامة لكل خلقه الكافر منهم والمؤمن، فقوله تعالى: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:٧] هذه معية عامة، فإنه مع خلقه المؤمن منهم والكافر، قال: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:٧]، فالآية بدأت بذكر العلم لله عز وجل وانتهت بذكر علم الله عز وجل، مما دل على أن معية الله عز وجل لخلقه إنما هي معية علم، وسمع، وبصر، وإحاطة، وقدرة، وغلبة.
وقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:٤]، فذكر العلم هنا مرتين، وذكر المعية مرة، دل ذلك على أن معية الله عز وجل بخلقه إنما هي معية علم.
قال الإمام الطبري في قول الله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:٤]، أي: وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم، يعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق السماوات السبع.
إذاً: لا منافاة بين علو الذات لله عز وجل وبين معية الله عز وجل لخلقه، فإن الله عز وجل مستو على عرشه بذاته، وهو مع خلقه بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته، وهذه المعية كثيرة في القرآن، ولها أكثر من معنى، وذلك يرجع إلى القرينة التي اقترنت بها.
ومن ذلك قول الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:٤٦]، أي: إنني معكما بسمعي ورؤيتي، لا بذاتي وحضرتي، فكان ذكر السمع والرؤية بعد المعية قرينة عينت المعنى وبينته.
ومثال ذلك قوله تعالى: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:١٥] كذلك المعية هنا بمعنى الرقابة والاطلاع بالسمع.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:١٩٤]، فهذه معية خاصة مقيدة بصفة التقوى، فإن الله تعالى مع كل تقي، فالكافرون لا يكون الله معهم مع أن المتقين والكافرين مشتركون من الناحية الذاتية، فلو كان الله بذاته مع أحدهم لكان مع سواه، ثم علمنا أن هذه المعية أنها معية التأييد والنصر لأهل التقوى، ومعية الخذلان لأهل الفجور.
ومنه قول الله تعالى على لسان نبيه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠]، فهذه معية خاصة أيضاً ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن الله تعالى معهما بتأييده ونصرته.
ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:٢٤٩]، فلو كان الله بذاته لما كان من معنى لهذا التخصيص؛ لأن يكون بذاته عندئذ مع الصابرين وسواهم.
ومنه قوله تعالى على لسان إبراهيم: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:٦٢]، فالقرينة هنا قرينة الهداية؛ لأنه ذكر الهداية فدل بذلك على أن الله تعالى مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام معية هداية ونصر وتأييد على أعدائه وعلى حزب الله الكافرين، فنكتفي بهذا القدر من كتاب الله عز وجل لإثبات معية الله عز وجل، ولإثبات فوقية الله عز وجل على عرشه فوق سماواته.