[وصية عمرو بن العاص عند احتضاره وما فيها من العبر والعظات والمسائل والأحكام]
إن الحمد لله تعالى؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أخرج مسلم في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن شماس المهري رحمه الله أنه قال: (دخلنا على عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت، فبكى حتى علا نحيبه، ثم استدار ناحية الجدار، فقال له ابنه عبد الله: يا أبت! ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ فقال: يا بني! إن أفضل ما نعد: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإني لعلى أطباق ثلاثة، ولقد رأيتني وما أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحب إلي أني استمكنت منه فقتلته، ولو أني مت على تلك الحال لدخلت النار، فلما شرح الله تعالى صدري للإسلام أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قلت: يا رسول الله! أشترط، قال: تشترط بماذا؟ قال: قلت: أشترط أن يغفر لي.
قال: يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ أما علمت أن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ أما علمت أن الحج يهدم ما كان قبله؟ ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من كل شيء، وما كنت أطيق النظر إلى وجهه، ولو أني سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني من النظر إليه صلى الله عليه وسلم، ولو مت على تلك الحال لرجوت الله أن يدخلني الجنة، قال: ثم ولينا من هذا الأمر، ولا ندري ما الله صانع بنا فيها، فإذا أنا مت فلا تتبعني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً، وامكثوا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها كي أستأنس بكم، وأراجع رسل ربي).
هذا حديث عظيم القدر، جليل الشأن، اشتمل على عدة مسائل في العقيدة والأحكام، حديث صاحبه إمام من أئمة المسلمين في زمن النبوة، إنه عمرو بن العاص، صاحب مصر وواليها وفاتحها في العام الحادي والعشرين، وكان يلقب في الجاهلية بداهية العرب، كان سيداً ذكياً مطاعاً مجاهداً شجاعاً، أتى إلى مصر وفتحها سلماً أو حرباً، حتى يأتي كل مصري بعد ذلك إلى يوم القيامة في صحيفة حسنات هذا البطل المجاهد، صاحب واحد من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يدخل بسببه ملايين الناس إلى الجنة، وهكذا كان دأبهم رضي الله تعالى عنهم، فقد باعوا أنفسهم وأموالهم بجنة عرضها السماوات والأرض.
هذا البطل لما دخل عليه قومه وأصحابه وهو في لحظة الاحتضار، وفي آخر ساعات حياته قام يبكي؛ لأنه يعلم أنه قادم على الله عز وجل، وراحل عن هذه الدار التي لابد لكل حي أن يرحل عنها.
لما رأى منه ذلك ولده عبد الله ذلك الابن البار والعالم النحرير، فقد كان عالماً عابداً ولا يزال طفلاً صغيراً في الثانية عشرة من عمره أثار إعجاب النبي عليه الصلاة والسلام، وإعجاب أصحابه بكثرة عبادته، وبحرصه على طلب العلم وكتابته، لما رأى ذلك من أبيه قال: يا أبت! لم تبكِ؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ ألم يبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا؟ فقال له: يا بني.
انظر إلى الملاطفة والموادعة: الابن يقول لأبيه: يا أبتِ، والرجل يقول لولده: يا بني.
ملاطفة وموادعة، ومودة في الخطاب تفتح القلوب، وإنما فعل عبد الله ما قد أوجبه الشرع عليه من تذكير أبيه في هذا الموطن بعمله الصالح، وببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم له، حتى يقدم الوالد على ربه وقد أحسن الظن به، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم في صحيحه: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه).
وقال الله تعالى: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) أي: إن