[مراتب تغيير المنكر وعاقبة من يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]
نعى الله تبارك وتعالى على بني إسرائيل ولعنهم لتركهم هذا الأمر، فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:٧٨ - ٧٩].
والنبي عليه الصلاة والسلام يفسر هذه الآية فيقول: (إن علماء بني إسرائيل كانوا يمرون بأقوامهم وهم على المعاصي، فيأمرونهم وينهونهم، ثم ينصرفون عنهم، فإذا أتوا عليهم من غد لم يكن عليهم حرج -أي: لم ير أحد منهم عليه حرجاً- أن يكون أكيله وجليسه وشريبه، فضرب الله تبارك وتعالى قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم عليهما السلام).
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره)، وهذا أمر يفيد الوجوب، ويفيد أن من ترك ذلك مع القدرة عليه فهو آثم؛ لأنه قد فرط في واجب عظيم من واجبات الشرع.
ولعلكم تعلمون أن بعض أهل العلم قد عدوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الإسلام، ولكن جمهور أهل العلم قالوا: ليس بفرض على الحقيقة، أي: لا يساوي الشهادة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، ولكنه يقصر عن ذلك قليلاً، وهذا يعني أنه عندهم واجب محتم من واجبات الشرع، قد وردت به الأوامر في الكتاب والسنة.
قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)، ثم بين أن الإنكار بالقلب هو أضعف الإيمان فقال: (وذلك أضعف الإيمان)، وفي رواية: (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
يعني: أقل درجات الإنكار أن تنكر بقلبك، وأن تغضب لله عز وجل، وأن يتمعر وجهك لانتهاك حرمة من حرماته سبحانه وتعالى.
أما التغيير باليد فهو مكفول لكل أحد كان بإمكانه أن يغير بهذه الوسيلة، لكن لهذا التغيير ضوابط سنذكرها -بإذن الله تعالى- فإن عجز أن يغير باليد، وجب عليه أن ينتقل بعد ذلك للمرحلة الوسطى، وهي: التغيير باللسان إن كان من أهل البيان والفصاحة والعلم؛ فإن لم يكن كفؤاً لذلك وجب عليه وجوباً وقبل أن ينتقل إلى المرحلة الدون: وهي الإنكار بالقلب، أن يترك مكان المعصية، وينصرف بعد أن يعلن النكير بوجهه أو بحركاته أو غير ذلك.
المهم ألا يترك أصحاب المعصية إلا وقد أخبرهم بلسان حاله أنه غير راض عن ذلك.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره) أي: في وقت نشاطنا، وفي وقت كرهنا، والمراد في كل أحوالنا: (وفي العسر واليسر) أي: في وقت المال، وفي وقت عدمه، (وعلى ألا ننازع الأمر أهله، إلا أن نجد كفراً بواحاً لنا فيه من الله برهان) أي: لنا فيه من الله بيان ساطع لا يختلف عليه اثنان، ثم قال: (وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخشى في الله لومة لائم) أي: أن نصدع بالحق لا نخاف أحداً لا كبيراً ولا صغيراً، لا حاكماً ولا محكوماً، لا طاغية ولا مؤمناً، وأن نقول به أينما كنا، حتى وإن كنا في أحلك الظروف وأسوئها، لابد أن نصدع بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم.
أي: إذا لامنا أحد فإننا لا نخاف إلا أن نكون قد ارتكبنا معصية تغضب الله تبارك وتعالى.
وما الذي يجعل المرء منا يتقهقر ويتقاعس عن الدعوة إلى الله عز وجل، وعن الإيمان بالله عز وجل، وعن الصدع بالحق أينما كان؟ لماذا يخشى الناس والله تبارك وتعالى أشد بأساً وأشد تنكيلاً؟! فإذا كان عذاب الله تبارك وتعالى هو أشد وأبقى من عذاب جميع المخلوقين، فلماذا الخوف من المخلوقين إذاً؟! إن المخلوق مهما بلغت قوته لا يملك سلطاناً إلا على بدنك، أما سلطان القلب فإنه لا يقوى عليه، ولذلك يقول أهل العلم: الإنكار بالقلب في مقدور كل إنسان.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في حديث زينب بنت جحش لما قام من الليل فزعاً-: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بالإبهام والتي تليها)، ويأجوج ومأجوج من علامات الساعة الكبرى، وإذا كان ذلك الفتح من الردم في زمانه عليه الصلاة والسلام وقد فزع فكم قد بلغ هذا الفتح الآن؟ والله أعلم إذا كان يتسع أو لا، أو أنه يفتح مرة واحدة، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ويل للعرب) وخص العرب بالذكر؛ لأن دين الإسلام بدأ فيهم، وهم نواة الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بالإبهام والتي تليها، قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم.
إذا كثر الخبث).