[أحوال أهل العلم في طرق نشر العلم من حيث السؤال والجواب]
ومذاهب أهل العلم في قضية السؤال والجواب على ثلاثة: الأول: أنه يبدأ في طرح العلم بغير سؤال.
الثاني: أنه لا يجيب حتى وإن سئل، فهو ضنين جداً بالرواية وبالعلم وبالتفقيه وبتعليم الناس، ومن أمثال هؤلاء: إمام كوفي يسمى: سليمان بن مهران الأعمش، فقد كان له تلاميذ، واعلم أن تلاميذ الأعمش من أئمة الدين وأعلام الهدى في الأمة؛ لأن الأعمش كان الأول في العلم في زمانه في العراق، ومع هذا كان يربي في بيته كلباً، فإذا علم أن أصحاب الحديث وأصحاب السؤال أتوه وطرقوا عليه الباب كان يطلق عليهم الكلب، فيجرون في الشوارع أمام الكلب، فيسر الأعمش بذلك.
ومن طرائفه: أنه اختلف مع امرأته ذات يوم، فأتى بأحد الطلاب ليصلح ما بينه وبين امرأته، فكان مما قال هذا الطالب للمرأة: لا يضرك عمش عينيه، ولا جعد بشرته، ولا سقوط شعره ولا كذا ولا كذا، وظل يعدد عيوبه، فقال له: قم قبحك الله، فإنك قد أخبرتها ما لم تكن تعلم، أأنت جئت للإصلاح أم ماذا؟ ومنها: أنه شيع جنازة ذات يوم -والأعمش هو الذي لا يرى جيداً- فأخذه طالب ذكي ومهذب، فقال له: يا إمام! تريد أن ترجع إلى بيتك؟ قال: نعم، فأخذه واصطحبه، ثم قال له: أتعرف أين أنت الآن؟ قال: على مشارف الكوفة، فقال لا: بل أنت عند جبانة فلان، وقد انصرف عنك الناس، ووالله لا أردك إلى بيتك حتى تحدثني وتملأ هذا اللوح.
وبدأ يحدثه الأعمش والطالب يكتب بخط دقيق وصغير جداً من أجل أن يأخذ أكبر قدر من العلم، فلما ملأ اللوح قال: الآن يا إمام، ثم لما كان على مشارف القرية ناول اللوح أحد إخوانه سراً، فلما أيقن الأعمش أنه أمام باب داره قال: امسكوا هذا الفاسق وخذوا منه اللوح، فقال: يا إمام! لقد رحل اللوح، فقال الإمام: كل ما حدثتك به باطل، فرد الطالب المؤدب قائلاً: أنت أجل وأعظم من أن تكذب على الله ورسوله، أي: لست أنت الذي تكذب على الله ورسوله.
ودخل عليه أناس ذات يوم وقالوا له: يا إمام! حدثنا بعشرة أحاديث، فقال: ولا بخمسة، قالوا: حدثنا بخمسة، قال: ولا باثنين، قالوا: حدثنا باثنين، قال: ولا بواحد، فقالوا: بواحد، قال: ولا بنصف، قالوا: حدثنا بنصف، قال: إن شئتم حدثتكم سنداً وإن شئتم حدثتكم متناً، يعني: يقول لهم: حدثني فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوقف، فهم لو ركبوا هذا الإسناد في متن سيكونون كذابين، ولو حدثهم بالمتن وركبوا له إسناداً سيكونون كذابين كذلك، والحاصل أنه سيعطيهم شيئاً لا ينتفعون به.
فاتفق الطلاب ذات يوم أن يدخلوا عليه في داره ويحملوه على الحديث، فلما كانوا في بيته قالوا: يا إمام! هل عندك من طعام فنطعم؟ فنظر إليهم وقال: نعم عندي، فذهب وأتى بالعدس ووضعه أمامهم، ثم ذهب ليأتي بالخبز وجاء فوجد العدس قد انتهى، فوضع الخبز وذهب ليأتي بالعدس فجاء فوجد الخبز قد انتهى، وفعل ذلك ثلاث مرات، ولك أن تتصور أن الأعمش ذاهب وآت، وهو ساكت لا يتكلم بكلمة، ثم قال لهم: لقد أذهبتم طعامي وطعام أهل بيتي، وأتى بطبق من تبن فقال: ولم يبق إلا طعام دابتي، فكلوه هنيئاً مريئاً.
ودخلوا عليه ذات يوم فوجدوه يبكي بكاءً غزيراً، فقالوا له: يا إمام! ما الذي يبكيك؟ قال: مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
ويقصد بذلك كلبه، فطرد هؤلاء الأئمة باب من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! وله من الأخبار الشيء الكثير جداً، ومع هذا كان عزيزاً جداً، فقد أتاه رجل من عند السلطان ذات يوم، ومعه رسالة منه يأمره فيها أن يحدثه، وكان لا يجرؤ أحد أن يطرق باب الأعمش، فلما طرق الرجل عليه الباب قال: ادخل.
فدخل، وكان الأعمش يفتل شيئاً من الطعام ويطعم دابته، فقال: يا إمام! لقد جئتك من عند الأمير، فنظر إليه وقال: ما هذا الذي معك؟ قال: رسالة من الأمير.
قال: ناولنيها.
فأخذها ثم فتلها وناولها الدابة فأكلتها.
فانظر إلى العزة، وليس كبعض الناس الذين يغيرون ويبدلون ويبيعون دينهم، ثم قال: هيه، هات ما عندك.
قال: يا إمام! كيف تفعل هذا برسالة الأمير، وهو يأمرك فيها أن تحدثني.
قال: والله لا أحدثك ولا أحدث قوماً أنت فيهم، لذا لا يمكن أن يكون للسلطان أمر على العلماء، قال أبو الأسود الدؤلي، وهو سيد من سادات التابعين، ورجل له الفضل على الأمة بأسرها؛ لأنه هو الذي ضبط القرآن وأشكله وأنقطه بأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه: السلاطين حكام على الناس، والعلماء حكام على السلاطين.
إذاً: العلماء هم الذين يجب أن يحكموا العالم بما قد أوتوا من علم وهدى ونور، وهذا الذي صدرنا به هذا المجلس.
وقال قتادة: أتى على الحسن زمان يعجب ممن يدعو إلى نفسه، أي: أن الحسن البصري كان دائماً عندما يسمع شخصاً يقول: اسألوني، يتعجب من ذلك، وهو ما مات حتى قال للناس: سلوني.
وقال