[ذكر بعض الروايات في صفة الحوض]
قال: ووقع نزاع بعد السلف، هذا النزاع كان على أشكال: الشكل الأول: إثبات الحوض.
الشكل الثاني: إنكار الحوض.
الشكل الثالث: إثبات الحوض بغير صفاته، أي: بغير الصفات التي وردت في النصوص من حيث الشراب ومن حيث اللون، ومن حيث عدد الأواني، ومن حيث مكان الحوض أين يوجد؟ فمنهم من قال: الحوض في الجنة، ومنهم من قال: الحوض في عرصات القيامة.
والصواب هو الرأي الثاني: أن الحوض في عرصات القيامة.
ومنهم من قال: الحوض هو الكوثر وليس كذلك، بل الكوثر باتفاق أهل السنة نهر في الجنة، والحوض في عرصات القيامة، وعرصات القيامة قبل الجنة، وبين الحوض والكوثر ميزاب، أي: طريق كالقناة، ومادة الحوض هي مادة الكوثر، والكوثر هو الذي يغذي الحوض، هذا معتقد أهل السنة والجماعة، وسترى أدلة ذلك.
فأجمع السلف على إثبات الحوض وأهل السنة من الخلف؛ لأن الخلف عند الإطلاق: هم كل من خالف السنة -أي: العقيدة- وإن كان من أبناء القرن الأول، والسنة عند الإطلاق في باب الاعتقاد تعني: من استقام على منهاج النبوة في العقيدة على جهة الخصوص.
أما الخلف فتعني: الانحراف عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام في باب الاعتقاد حتى وإن كان من أبناء القرن الأول.
إذاً: السنة هي: اتباع منهاج النبوة في باب الاعتقاد حتى وإن كان ذلك في آخر الزمان فهو من أهل السنة، بخلاف الخلف.
وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة كالخوارج وبعض المعتزلة.
إذاً: الذي أثبته أهل السنة سواء كانوا من أزمنة السلف الخيرية أو من أتى بعدهم إلى قيام الساعة، وكذلك الخلف الذين خالفوا أصول الاعتقاد كالخوارج وبعض المعتزلة، فليس كل المعتزلة ينكر الحوض، وإنما بعض المعتزلة أنكر الحوض.
فالذي أثبت الحوض هم أهل السنة في كل زمان ومكان بدليل تواتر الحديث، والإمام ابن حزم قال: لا يحل لأحد أن يخالف نصاً صحيحاً قد ورد في سنة النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن متواتراً.
وقال: الحجة عندي تفيد العلم واليقين والقطع إذا أتت من طريق الثقة عن الثقة حتى بلغت النبي صلى الله عليه وسلم، أي: لا يحتاج إلى تواتر.
ويقول -ويؤيده في ذلك الشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله-: حديث الآحاد يفيد العلم القطعي الضروري ما دام أن إسناده صحيح، بخلاف جماهير المحدثين والعلماء الذين يقولون: لا يفيد العلم القطعي الضروري -أي: اليقيني- إلا الحديث المتواتر.
قال: وأنكرت ذلك طائفة من المبتدعة وأحالوه على ظاهره، ومعنى أحالوه أي: قالوا باستحالة أن يكون الحوض على ظاهر هذه الأرض، أو استحالة أن يكون هذا النص على ظاهره.
قال عليه الصلاة والسلام: (حوضي ما بين أيلة إلى عدن، ماؤه أحلى من العسل وأبيض من الورق -أي: الفضة- آنيته عدد النجوم)، قالوا: مستحيل أن يكون هناك حوض بهذا، كما أنه هو مستحيل على الخلق أجمعين أن يجعلوا حوضاً كهذا الحوض، نقول: هل هذا مستحيل في حق الله؟! وهل الله تبارك وتعالى يوصف بأنه يستحيل عليه شيء؟!
الجواب
لا، فإذا كان خالق الحوض هو الله عز وجل فحينئذ لا يمكن أن يقال: مستحيل في حقه أن يفعل كذا.
وغلوا في تأويله من غير استحالة عقلية ولا عادية تلزم من حمله على ظاهره وحقيقته، ولا حاجة تدعو كذلك إلى تأويله؛ لأن الذي ينكر شيئاً لابد أن يقع بين فكين: الفك الأول: إقراره واعترافه بصحة الآيات والأحاديث الواردة في هذا الشيء الذي ينكره، وإلا فأهل السنة والجماعة لا يثبتون شيئاً إلا إذا كانت أدلته صحيحة وصريحة، فالذي ينكر يلزمه أن يتعامل مع هذه النصوص الصريحة والصحيحة، فإما أن ينكرها وأن يجحدها فيكفر بها، وإما أن يصرفها ويؤولها على غير ظاهرها.
فهؤلاء المبتدعة الذين أنكروا الحوض كان لزاماً عليهم أن يتعاملوا مع هذه النصوص المتواترة التي ثبت من خلالها حوض النبي عليه الصلاة والسلام، فأولوها عن ظاهرها، قالوا: الحوض رمز الخير؛ ولذلك قالوا لـ ابن عباس: أما علمت يا ابن عباس أن الحوض هو الكوثر، وأن الكوثر هو الخير الكثير؟ قال: إي والله! إن الكوثر لهو الخير الكثير.
يريد أن الكوثر والحوض هما من الخير الذي أعطيه النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا -بلا شك- خير كثير خصه الله عز وجل به.
فخرقوا الإجماع الذي انعقد عند السلف وفارقوا مذهب أئمة الخلف.
قال الحافظ ابن حجر: أنكر الحوض الخوارج وبعض المعتزلة.