للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مكانة أمة الإسلام عند الله وعند رسوله وأسباب ما نزل بها من ذل وهوان]

إن الحمد لله تعالى؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢].

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:١].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:٧٠ - ٧١].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

لا شك أنه من المعلوم لدى كل مسلم ما قد نزل بالأمة من ويلات وحسرات، فكل منا متوجع ومتألم ومتحسر، ومنا المتألم بصدق وإخلاص، ومنا المتحسر بكذب وبهتان، بل ومنا المتحسر استهزاءً بالله عز وجل وبأنبيائه ورسله وكتبه، وبهذه الأمة المباركة، ولا يدري المسكين أن هذه الأمة هي أبرك أمة خلقها الله عز وجل، وأنها أخير أمة على وجه الأرض, وأن النصر حليفها لا محالة وإن لم يكن اليوم فغداً بإذن الله تعالى، ولكن لا بد لهذه الأمة أن تعلم أمرين اثنين: الأمر الأول: أن ما نزل بها إنما هو بسبب ما اقترفته أيديها.

والأمر الثاني، وقد بينه الله في كتابه وبينه نبيه وحبيبه صلى الله عليه وسلم في سنته: أنها لكرامتها على الله عز وجل أن النصر لها في نهاية الأمر، وأن الغلبة لها في المآل وإن كانت الأيام دولاً يوماً لها ويوماً عليها.

لابد لهذه الأمة أن تقرأ كتاب ربها وسنة نبيها، ثم تنظر في واقع الأمم الهالكة، لتعلم سبب هلاكها حتى لا ترتكب أسباب الهلاك كما ركبتها الأمم من قبلها، ولذلك بين الله تبارك وتعالى في كتابه أن هذه الأمة لا بد أن يظهر فيها الفساد، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:٤١]، والباء هنا سببية، وهذا الفساد إنما هو بسبب ما ارتكبت أيدي الناس: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:٤١].

وقال الله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:١٨٢].

وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠].

إن الذي حل بهذه الأمة كان بسبب ركوبها المعاصي وتركها الطاعة، ولا بد أن ترجع إلى ربها وإلا سيكتب عليها الذل والهوان طالما أعرضت عن كتاب الله وعن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أجرى الله تعالى في هذه الأمة سنته التي لن تجد لها تبديلاً ولا تحويلاً، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال:٥٣].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} [الرعد:١١] أي: إذا أنعم الله تعالى على أمة من الأمم بنعمة من النعم، فإنه لا يزيلها ولا يمحقها ما دامت هذه الأمة قائمة لله وبأمر الله وعلى نهج الله، فإن هذه النعمة لا يمكن أن تزول عنهم أبداً، سنة من الله تعالى، إن الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا هم، وحتى يبدلوا هم، وحتى يتنكبوا الطريق هم، فحينئذ يزيل الله تبارك وتعالى ما بهم من نعم.

ضرب لهذا مثلاً حياً عظيماً في القرآن الكريم فقال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} [النحل:١١٢] فلما كفرت بأنعم الله أخذها الله تعالى بغتة، وهذه سنته في العصاة والكافرين والضالين الذين سلكوا سبيل الشياطين، وتركوا سبيل الأنبياء والمرسلين.

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً} [النحل:١١٢] أغلب أقوال أهل العلم على أن هذه القرية هي مكة المكرمة التي كفرت ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام، وكفرت بالقرآن وبالسنة.

{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:١١٢] أما الجوع فلأن النبي عليه الصلاة والسلام قطع عليهم الطريق

<<  <  ج: ص:  >  >>