للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[امتناع تنفيذ الحد من غير جهة السلطان]

الفارق السادس: أن الحد لا ينفذ إلا بإذن الحاكم أو نائبه لخطره العظيم، وهذا أهم فارق بين الحدود والتعزيرات، أهم فارق أن الحدود موكولة إقامتها إلى ولي الأمر لا إلى غيره، ولذلك فإن إقامة الحدود في غاية الخطورة من حيث تكييفها، ومن حيث ثبوتها، ومن حيث إقامة الحد بشأنها.

يعني: لو رأينا واحداً في هذا الوقت في الشارع سكران، أليس السكران هذا له حد؟ له حد ربنا قرره، بعدما جلدناه أربعين جلدة وأفاق قال: ماذا حصل؟! قلنا: أنت كنت سكران، قال: كيف وطول عمري ما رأيت الخمر؟ وإنما شربت هذه الكوكاكولا من المحل الفلاني، ولما شربتها حصل لي الذي حصل، ولما سألنا صاحب المحل قال: والله أنا هكذا أتيت بها من الشركة، فلما رأينا الماء المتبقي في الزجاجة رأيناه فعلاً خمراً، فهذا الرجل ليس سكيراً، وإنما شرب الخمر على سبيل الخطأ حيث ظن هو أنه ماء، أو أنه بيبسي كولا أو شيء من هذا، فهذا الرجل مع جهالته بالمشروب وظنه أن هذا المشروب ليس خمراً، هل والحالة هذه يستوجب الحد؟ إذاً: لا بد في إقامة الحد من رفع الجهالة عن المحدود، ولذلك انظر أنت إلى ماعز الأسلمي لما (أتى إلى النبي عليه السلام فقال له: زنيت يا رسول الله، فأشاح عنه بوجهه، ثم أشاح أربع مرات، وهو في كل مرة يقول: زنيت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لعل صاحبكم مجنون، قالوا: والله يا رسول الله ما عهدنا عليه جنوناً.

قال: لعله سكر -يعني: ما وقع فيما وقع فيه إلا وهو سكران- فقال النبي عليه السلام: ادن مني.

فلما دنا منه وضع فاه على فيه واستنكهه - شم رائحته - فما وجده سكران، قال: يا ماعز! أتدري ما الزنا؟ قال: نعم.

يا رسول الله، قال: أدخل هذا منك في ذاك منها كما يدخل الرشا في البئر؟ قال: نعم.

قال: أقيموا عليه الحد).

فلا بد قبل إقامة الحد من توافر الشروط في المحدود وفي محل الحد، وفي كيفية الحد، فإذا لم تعلم هذه الشروط فلا يجوز إقامة حد على عبد من عباد الله.

ولو أن رجلاً أكره على شرب الخمر، هل يقام عليه الحد؟

الجواب

لا.

لأن الإكراه يسقط الحد.

والجاهل والصبي الصغير الذي لم يبلغ والمجنون هل يقام عليهم الحد؟ الجواب: لا.

فمن أجل إقامة الحد لا بد من شروط يجب توافرها، وموانع يجب امتناعها.

ولذلك جعل الله عز وجل إقامة الحد بيد السلطان لا بيد غيره؛ لأن السلطان إنما يوكل علماء مجتهدين لإثبات الحد، فإذا ثبت الحد على المحدود - أي: على العاصي - من جهة النظر - أي: من جهة الشرع - فيوكل أمره بعد ذلك إلى الجهة التنفيذية لتقيم عليه الحد، ولذلك ليست حدود الله تبارك وتعالى تبعاً لنا، بل لا بد من إثباتها بالضوابط والقيود الشرعية، ولا بد أيضاً من انتفاء الموانع التي جعلها الشارع مانعة من إقامة الحد، أو إلحاق الحد بصاحبه، ولذلك جعل الحدود بيد الحاكم أو بيد الوالي أمر في غاية الأهمية، فلا يجوز لأحد قط أن يقيم الحد على مجرم ولا على عاصٍ، أبداً، حتى وإن كان عالماً؛ لأن الأصل في إقامة الحدود إنما هي للوالي، حتى وإن توافرت الشروط وانتفت الموانع فلا يجوز لك أبداً؛ لأن هذا ليس حقاً لك، والله تبارك وتعالى لم يكلفك بذلك، وإنما كلف غيرك.

فدع من كلفه الله تبارك وتعالى يتحمل هذه المسئولية، ولا تقحم نفسك فيما لم يكلفك الله عز وجل به.

ولذلك فإن من أعظم ما يستلزم به المجتمع المسلم: وضع الأمور في نصابها، وأن يقوم كل واحد بما أوجبه الله تبارك وتعالى عليه، وعدم تدخل الآخرين في أعمال أهل الولايات وأهل الاختصاص.

وقد ارتفعت إقامة الحدود من الأرض جميعاً، ولم يكن هناك إقامة حدود على منهج الله لا في هذا البلد ولا في غيره من بلاد المسلمين قاطبة، لا نستثني من ذلك بلداً واحداً، فليس للناس - والحالة هذه - إلا أن يتوبوا إلى الله عز وجل، وأن يستغفروا من ذنبهم، وأن يكثروا من النوافل، وأن يحافظوا على الفرائض ولا يتساهلوا فيها، ومن كان ذا مال فليكثر من الصدقات، ومن بذل المال لله عز وجل، وعلى العاصي أن يتوب، ويتقطع قلبه حسرة وندماً على إساءته، ويعزم على ألا يعود لمثلها أبداً.

فلا يجوز للعبد العاصي - والحالة هذه - إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، لا يأذن لأحد غير الوالي أن يقيم عليه الحد؛ لأن هذا بخلاف ما أمر الله تعالى به، وكذلك هو لا يجوز له أن يقيم الحد على نفسه؛ لأنه من باب الانتحار، فإن الحد لا ينفذ إلا بيد الحاكم، بخلاف التعزير، فإن الشارع إنما جعله للحاكم ولغيره.

<<  <  ج: ص:  >  >>