[دلالة الكتاب والسنة والإجماع على حل البيع وتحريم الربا]
البيع حلال بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب: فقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:٢٧٥] رداً على اليهود الذين قالوا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}[البقرة:٢٧٥] نفس الصورة التي يتم بها عقد البيع يتم بها عقد الربا، ولكن الله تعالى أحل هذا وحرم ذاك، بل ومحق الربا، وربّى ونمّى البيع، {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}[البقرة:٢٧٦] يربيها وينميها كما ينمي أحدكم فلوه -المهر الصغير-، يربيه حتى يكون حصاناً كبيراً يصلح لنقل البضائع والأمتعة.
البيع والربا وإن كانا متحدين في الصورة إلا أنهما مختلفان في الحقيقة والجوهر، كما أنهما يختلفان في الحكم الشرعي:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}[البقرة:٢٧٥]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}[النساء:٢٩] والرضا شرط في صحة البيع بين البائع والمشتري، كما يشترط ألا يكون هناك غبن ولا تدليس ولا تمويه في البيع والشراء.
أما السنة: فقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث حكيم بن حزام: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا فقد وجب البيع).
فأثبت النبي عليه الصلاة والسلام خياراً للبائع والمشتري في مجلس العقد، أي: مجلس البيع والشراء، فإذا انصرف البائع أو المشتري من المجلس فقد تم ونفذ البيع حينئذ، فلا يحل للمشتري ولا للبائع أن يرجع في بيعه وشرائه؛ لأن بعض الناس يذهب إلى البائع فيشتري سلعة، ويدفع الثمن ويقبض السلعة بين يديه، ثم تمكث عنده اليوم واليومان ثم يرجع إلى البائع مرة أخرى ويقول: أنا لا أريدها.
خذها وأعطني ما دفعت، فلو أن البائع رفض لكان محقاً في الشرع؛ لأن المشتري أخذ السلعة وانصرف عن مجلس البيع فانقطع خيار الرد، إلا أن يكون في السلعة عيب خفي فللمشتري أن يرجع إن لم يكن من أهل الخبرة بهذا العيب، أما إذا كان العيب ظاهراً فلا، كأن يشتري شيئاً من الثمر أو الطعام به عيب ظاهر في الرائحة أو المنظر ورأى هذا العيب أو لم يره فلا يحق له أن يرجع على البائع إذا انصرف؛ لأنه قصر في معرفة السلعة التي أراد أن يشتريها، ولذلك لما دخل النبي عليه الصلاة والسلام السوق ووجد رجلاً يبيع سلعة من السلع فقلبها فوجدها مبتلة! قال:(ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابها المطر يا رسول الله، قال: هلا أظهرت عيبها، ثم قال له: من غشنا فليس منا).
قوله:(من غشنا)، خطاب عام لجميع الأمة، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:(التجار هم الفجار إلا من بر واتقى)، وقال:(ليس للتجار الصدوق جزاءً إلا الجنة) إذا كان صادقاً، أما إذا كان غاشاً ومدلساً فالنار مثواه أو يعفو الجبار تبارك وتعالى.
كذلك إجماع الأمة منعقد على حل البيع والشراء، وأنه خاضع للضرورات وحاجات الناس، فلا يمكن لإنسان أن يحقق الاستغناء والكفاية التامة لنفسه أو لغيره، والإنسان اجتماعي بطبعه يحتاج إلى أخيه كما أن إخوانه يحتاجون إليه، وليس للمرء أن يعيش وحده أبداً، فلما دعت حاجة الناس إلى التبادل والبيع والشراء أحل الله عز وجل ذلك للناس تيسيراً لهم، ورفع الحرج والمشقة عنهم، وأمرهم بأوامر وأحكام منها: وجوب الكيل بالقسط والميزان، والوفاء في الكيل والميزان، كما قال الله تعالى:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}[الأنعام:١٥٢]، وقال الله تعالى:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا}[الإسراء:٣٥]، وهدد الله عز وجل من خالف ذلك فقال:{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين:١]، ثم وصفهم الله عز وجل فقال:{الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ}[المطففين:٢]، إذا أخذوا من الناس أخذوا أنصبتهم كاملة وافية، وإذا أعطوا الناس بخسوهم في الكيل والميزان {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ}[المطففين:١ - ٤] بين يدي الله عز وجل، وموقوفون، ومحاسبون على النقير والقطمير، لا بد أن يعلموا ذلك، فإذا علموا فليعلم من طفف الكيل والميزان أن الله تعالى قد أعد له في الآخرة الويل والثبور؛ لأجل حبات من القمح، أو الشعير، أو الأرز، أو الثمار، الأمر لا يستحق، بل الدنيا بحذافيرها لا تساوي أن يتعرض المرء للفح النار فضلاً عن أن يدخلها ويمكث فيها ما شاء الله له أن يمكث.