[أسباب تخلف أثر الدعاء]
وكذلك من الأدوية التي جعلها الله عز وجل علاجاً لكثير من الأدواء: الدعاء، قال: [وكذلك الدعاء، فإنه من أقوى الأسباب في دفع المكروه وحصول المطلوب، ولكن قد يتخلف عنه أثره -تدعو فلا يستجاب لك- إما لضعفه في نفسه بأن يكون دعاء لا يحبه الله، لما فيه من العدوان]، كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فيقول مثلاً: اللهم أهلك والدي! ثم لم يهلك الوالد، وعاش مدة من الزمان، فيقول: قد دعوت الله فلم يستجب لي؛ لأنه دعاء لا يحبه الله ولا يرضاه، بل ثبت عن النبي عليه السلام أنه قال: (دعوة الوالد على ولده لا ترد).
وفي رواية: (دعوة الوالد لولده لا ترد)، أما الولد إذا دعا على أبيه فهذا من الإثم والعدوان.
قال: [وإما لضعف القلب وعدم إقباله على الله وجمعيته عليه وقت الدعاء، فيكون بمنزلة القوس الرخو جداً فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً].
أي: إن أتيت بقوس، ووضعت فيه السهم، فلابد أن يكون القوس مشدوداً على آخره حتى يصيب السهم الهدف، فإن كان القوس رخواً فلابد أن يخرج السهم رخواً، وبالتالي لا يصيب الهدف، مع أن السهم قد انطلق، لكن ليس الانطلاق المطلوب، وإنما أقل من المطلوب، وكذلك إذا كان القلب مشغولاً لاهياً عن الله عز وجل، أو كان الداعي غافلاً عن مطلوبه وعن حاجته التي يدعو الله بأن يقضيها له، فكيف يستجيب الله تعالى له؟! قال رحمه الله: مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما عند الحاكم والترمذي بسند حسن من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)، أي: ادعوا الله وأنتم على يقين بأن الله تعالى يقبل دعاءكم، (واعلموا أن الله لا يقبل دعاءً من قلب غافل لاه).
وربما ذهب المرء إمعاناً في غفلته يدعو لنفسه فيدعو على نفسه؛ لأنه لا يفكر بدعائه، بل يقوله مجرد كلام محفوظ، ولو سألته: بم دعوت؟ وكيف دعوت؟ فربما لا يذكر أنه دعا، أو يقول: أنا دعوت، ولكني لا أذكر ماذا قلت؛ لأنه كان في غفلة، أما الذي جمع قلبه على الله عز وجل، وأيقن بدعائه ودعواته علم كيف دعا الله؟ وبماذا دعا الله عز وجل؟ أما القلب الغافل الساهي اللاهي عن الله عز وجل، وعن طلبه لله تعالى بأن يرفع عنه الضر، ويكشف عنه الغم، فهذا جدير بألا يقبل له دعاء.
قال رحمه الله: [فهذا دواء نافع مزيل للداء، ولكن غفلة القلب عن الله تبطل قوته.
وكذلك أكل الحرام يبطل قوته ويضعفها، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال النبي عليه السلام: (يا أيها الناس! إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)]، أما الخبيث الذي يريد أن يتصدق به المرء فإن الله لا يقبله، كمن يسرق ليتصدق، وهو غني عن هذا، وحري أن يلزم طاعة ربه، والله تعالى غني عن صدقته.
وهذا قد عمل بقاعدة لا علم لأهل الإسلام بها، وهي: أن الغايات تبرر الوسائل.
وهذه القاعدة تناقض أصولاً شرعية كثيرة، لذا لابد أن يكون الغرض مشروعاً، وكذلك الوسيلة مشروعة، فشرعية الوسيلة لا تقل أهمية عن شرعية الغرض، ولا بد أن يكون كل منهما مشروعاً، وإلا فلا يقبله الله عز وجل.
قال: [(إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين)]، أي: أن المؤمن مطالب بما طولب به الأنبياء والمرسلون.
قال: [(فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:٥١])، وقال الله تعالى للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:١٧٢]] هناك فرق عظيم جداً بين الآيتين، والقدر المشترك بين المرسلين وبين المؤمنين: أن كلاً منهما مطالب بألا يأكل إلا طيباً، وألا يأكل إلا حلالاً، لكن المرسلين مطالبون بأن يأكلوا من أطيب الطيب، ولذلك عرفت كلمة (طيبات) بـ (أل) المعرفة، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون:٥١] ولم يقل: كلوا من طيبات ما رزقناكم، فكأن الألف واللام للعهد، أي: كلوا أيها الرسل من الطيبات التي تعلمون أنها الطيبات المعنية في الآية.
ثم وسع دائرة الطيبات للمؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:١٧٢]، ولم يقل: كلوا من الطيبات اللاتي رزقناكم، وإنما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ} [البقرة:١٧٢]، فالطيبات نكرة في سياق الإثبات تفيد العموم، أي: عموم الطيبات حلال لنا، أما بالنسبة للأنبياء فإنهم يتورعون عن بعض الطيبات، أو عن كثير من الطيبات، ولا ينتقون في طعامهم وشرابهم إلا أطيب الطيب، فهذا هو الفارق بيننا وبين الأنبياء.
قال: [(ثم ذكر النبي صلى الله