ومنها: ألا تقاطع صديقاً بعد مصادقته، ولا ترده بعد قبول، ولذلك قال الشاعر: لا تمدحن امرأً حتى تجربه ولا تذمنه من غير تجريب فإن حمدك من لم تبله سرف.
يعني: مدحك لمن لم تخبره وتعرف أخلاقه من الإسراف.
وإن ذمك بعد الحمد تكذيب.
وهذا كما فعل اليهود مع عبد الله بن سلام، فقد كان عبد الله بن سلام حبراً من أحبار اليهود، ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وسمع بمقدمه أتاه فقال: يا محمد! إني سائلك عن ثلاث لا يعلمها إلا نبي، فسأله ثلاثة أسئلة فلما أجابه النبي عليه الصلاة والسلام قال: أشهد أنك نبي ودخل في الإسلام، ففرح النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامه فرحاً شديداً جداً؛ لأنه حبر كبير من أحبار اليهود، وقد كان يمثل المرجعية لليهود، كالبابا شنودة اليوم يمثل المرجعية للنصارى، فتصور شنودة أسلم -وذلك ليس ببعيد على الله عز وجل- فما موقف النصارى في مصر؟ ولو أن بابا الفاتيكان أسلم فما موقف أمة النصارى؟ والنبي عليه الصلاة والسلام لما وجه الرسالة لـ هرقل قال له:(أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين).
مرة على الإسلام، ومرة على الأريسيين -أي: على الفلاحين- الذين معه، فلو أسلم لأسلم من معه، ولو بقي على الكفر لأعطى لهم مصداقية ومشروعية لما هم عليه من كفر.
فأهل العلم يستفاد منهم في كل قولة وحركة وسكنة، ولو أخطئوا فهم بشر، ولابد من احتمال الخطأ منهم، وقد كان السلف قبل أن يذهبوا إلى المجلس يتصدقون عن شيوخهم وعلمائهم، ويقولون عند الصدقة: اللهم استر عيوب شيوخنا، ونحن في هذا الوقت نذهب نتلمس عورة الشيوخ وأهل العلم وتصبح فضيحة، وهذا ليس من خلق الإسلام أبداً.
ولما سرق رجل مصري في الأردن سنة خمس وثمانين سرقة عظيمة يقام عليها الحد اجتمع هناك الإخوة والمشايخ والعلماء وفضحوه فضيحة عظيمة، وهذا الذي سرق ولد صالح، ولكن وقع في السرقة، هذه مثلما وقع ماعز الأسلمي في الزنا ووقعت المرأة الغامدية في الزنا، فلا حرج عليه إن تاب، وأرسل أحد الشيوخ هناك لوالد الولد هنا رسالة طويلة عريضة جداً يبين له أن ولده سرق وقد انتشر الخبر في كل بقاع الأردن بل وغير الأردن من البلاد المجاورة كالسعودية وغيرها، فرد والد الولد على ذلك الشيخ برسالة لطيفة جداً كلها تنضح أدباً، فقال: أيها الشيخ الفاضل! إذا كان ولدي سرق فهو بين أمرين، إما أن تقيموا عليه الحد إن وسعكم، وإما أن تستروا عليه وهذا يسعكم، ولا يوجد غير هذا، فإما أن يؤدب بأدب الشرع، وإما أن يستر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لـ هزال الذي كان ماعز في حجره:(ويحك يا هزال -يعني: يا ويلك- لو سترته بثوبك لكان خيراً لك).
وإذا صفا لك من الدنيا صديق واحد فقد رضي الله عنك، وقد كتب عالم إلى عالم مثله أن: اكتب لي بشيء ينفعني في عمري، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، استوحش من لا إخوان له -يعني: من ليس له أصدقاء فإنه في وحشة وضيق- وقد فرط المقصر في طلبهم، وأشد منه تفريطاً من ظفر بواحد منهم فضيعه، فوجد الكبريت الأحمر أيسر من وجدانه.
أي: أن وجد الكبريت الأحمر أيسر من وجدان الصديق المخلص، أي: أن وجدان الصديق المخلص أشد عزة وندرة من وجدان الكبريت الأحمر، والناس ثلاثة: معرفة، وأصدقاء، وإخوان، فالمعرفة بين الناس كثيرة، فأنا أعرف فلاناً وفلاناً وفلاناً، ولكن ليس بيني وبينهم صداقة، والصداقة عزيزة، والأخ قلما يوجد، يعني: الصديق عزيز جداً ومناسب جداً، وأندر منه الأخ الذي أنت وهو سواء.