فكذلك إذا أردت أن تزكي نفسك فلابد وأن تسعى في تحصيل هذه التزكية، وعلى رأسها توحيد الله تبارك وتعالى، وكذلك أركان الإيمان فهي سبب عظيم جداً في تزكية النفس؛ لأنها أمور غيبية، والنفس إذا كانت خبيثة فإنها لا تؤمن بالغيب؛ أنتم تعلمون أن هناك من ينكر عذاب القبر، بل من المسلمين من ينكر البعث والحساب والنشور، ومن الناس من ينكر الجنة والنار، وهم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان؛ لأنهم فقدوا أعظم ركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بالغيب، الإيمان باليوم الآخر، نعم هم إلى الكفر أقرب منهم للإيمان.
وقد لقيت رجلاً يقول: إن هذا القرآن ألفه محمد، ولذلك: أنا آخذ من هذا القرآن ما يحلو لي وأدع ما لا يحلو لي.
قلت: وكله كلام الله، قال: لا، بل كله كلام محمد! قلت: ما اسمك؟ قال: هشام، قلت: هشم الله قلبك قبل رأسك، فإنك قد بلغت ما لم يبلغه أبي بن خلف، وإنك قد بلغت ما لم يبلغه فرعون، قد أنكرت كتاب الله عز وجل، فهل بعد هذا من كفر؟ ولذلك في حديث جبريل الطويل:(قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره)، وفي رواية أخرى بزيادة:(وأن تؤمن بالبعث، وبالحساب، والجنة، والنار)، وغير ذلك من أمور الغيب لو أن مسلماً أنكر أمراً من هذه الأمور اليقينية القطعية، فكيف يكون مسلماً، وهذه كلها أمور غيبية؟ فالله تبارك وتعالى بالنسبة لنا غيب، فهل يؤمن به ذلك الجاحد؟ إذا أقر بوجود الإله سبحانه وتعالى فلابد أن يصدق كلامه، ويؤمن بخبره كذلك، ولكنه يأخذ ما حلا له، وهذا يخرم الإيمان في الصميم، ويفسد الإسلام على صاحبه، فيخرج من ملة الإسلام، ويدخل في الكفر من أوسع الأبواب؛ لأنه أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة.
ولذلك كانت أصول الإيمان مسألة عظيمة جداً، فأنت تؤمن بالنبي محمد ولم تره، هذا إيمان عظيم جداً، وتؤمن بالكتب السابقة ولم ترها، أو رأيت بعضها ولم تر البعض، مع أنك مكلف أن تؤمن بجميع الكتب، ما علمت منها وما لم تعلم، ومكلف كذلك أن تؤمن بالرسالات وبالرسل والأنبياء، وبالقدر خيره وشره، وأن كل ذلك من عند الله عز وجل، فإن تقاعست وتأخرت عن هذا الإيمان ولم تحققه أتم تحقيق، فلابد وأنه ينخرم إيمانك ويبطل إسلامك، ولذلك فإن الإيمان بأركان الإيمان، ابتلاءات عظيمة جداً من الله عز وجل؛ لينظر هل تتوقف في الإيمان بها، أم تسارع وتبادر بتزكية نفسك، واعتناق ذلك واعتقاده أحسن اعتقاد، وأن تجزم على ذلك قلبك؟ ولذلك أيها الإخوة الكرام! إن توحيد الله عز وجل هو أزكى ما يمكن أن يعتقد العبد ليصلح به نفسه، ولذلك قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:٣٦]، وقال سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}[الأنبياء:٢٥]، وقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}[ص:٦٥ - ٦٦]، وفي الحديث الشريف حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، كان أول ما أمره بالإيمان بالله، وتوحيده، فقال:(يا معاذ إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، لأنهم اعتادوا أن يعبدوا آلهة متعددة، أن يعبدوا عيسى، وأن يعبدوا عزيراً، وأن يعبدوا معبودات أخرى من دون الله عز وجل، فكونك تأتي وتهدم هذه الآلهة، وهذه الأصنام والأوثان، وتقول لهم:{وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}[المائدة:٧٣]، فلا شك أن هذا ضرب في صميم عقيدتهم، ولذلك قالوا:{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص:٥].