[معنى النصيحة لله تعالى]
ولا بد أن نرجع إلى أصل حديثنا وعمدة كلامنا، وهو حديث تميم الداري (الدين النصيحة.
قلنا: لمن يا رسول الله) استفسار وبيان؛ لأن الأمر مستغلق (قال: لله) وهل يحتاج الله تبارك وتعالى إلى نصيحة عبد من عباده؟! حاشا لله أن يكون هذا في ذهنك، فإن الله تبارك وتعالى قد كلفك بأن تكون ناصحاً له بمعنى: مخلصاً له، فالنصيحة هنا في جنب الله تبارك وتعالى بمعنى الإخلاص، كما تقول: نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، والإخلاص لله تبارك وتعالى يعني أن تعبد الله تبارك وتعالى، ولا تشرك به شيئاً، أن تعبد الله تبارك وتعالى بما أمر وأن تنتهي عما نهاك عنه، فإن كنت كذلك فأنت ناصح لله تبارك وتعالى، وهو أعظم ركن وأوجب الواجبات على العباد، وهو توحيد الله تبارك وتعالى، كما في الصحيح وغيره أن معاذ بن جبل ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك، ثم سكت وسار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: أتدري ما حق الله على العبيد؟ قلت: الله ورسوله أعلم، ثم سار ساعة وقال يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: أتدري ما حق الله على العبيد؟) فعل ذلك ثلاثاً ليجمع حواس معاذ كلها؛ لأن الأمر ثقيل وعظيم والمهمة خطيرة وهي التي لأجلها خلق معاذ وغيره (قال: يا معاذ بن جبل! حق الله على العبيد أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئا)، وفي رواية (أن يوحدوه).
(يا معاذ بن جبل! أتدري ما حق العبيد على الله؟).
وهل على الله حق لخلقه؟ إن هذا الواجب الذي أوجبه الله على نفسه هو من فضل الله ونعمه وليس واجباً في مقابل حق، وإلا فلو أن أعمال العباد بأسرها وزنت في مقابل نعمة واحدة من نعم الله عليهم لطاشت عبادتهم، ولكن الله تعالى تفضل علينا بأن أمرنا بعبادته والإخلاص فيها في مقابل الجنة التي خلقها لأهل الطاعة وقال: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، وخلق النار للعصاة والكافرين والملاحدة وقال: يا أهل النار! خلود بلا موت، فإن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وقد دخل الجنة نبينا عليه الصلاة والسلام ورأى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقد اطلع على النار فرأى أكثر أهلها النساء، قال النبي عليه الصلاة والسلام واعظاً لهن: (يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة جزلة -عاقلة- وقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير، يحسن الرجل الدهر كله إليكن، فإذا ما بدا منه في يوم شيء قلتن: ما رأينا منك خيراً قط، كفران النعم والعشير يستوجبان دخول النار، فاتقين الله يا معشر النساء).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ بن جبل أتدري! ما حق العبيد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟) أي: إذا عبدوا الله ولم يشركوا به شيئاً (قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: حقهم على الله إذا هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم)، وفي رواية أخرى: (أن يدخلهم الجنة) , فالأنبياء والمرسلون هم أعظم الخلق جميعاً، قاموا لله تبارك وتعالى بالنصيحة وبالإخلاص في العبادة وتوحيده حق التوحيد، بحيث لم يخالطه شك ولا ريب، كما لم يخالطه شرك ولا ظلم، ومن بعدهم أصحابهم وحواريوهم؛ لأنهم تربوا على أيدي أنبيائهم ورسلهم فقاموا لله تبارك وتعالى بالنصيحة، ومن بعدهم أتباعهم، وخاصة أتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
فهذا ابن عباس رضي الله عنه، وإني أريد أن أتغاضى عن عبادة ابن عباس وخوفه من الله ورجائه في الله، الذي مات عنه النبي عليه الصلاة والسلام وهو صغير في السن كما مات عن عائشة خير الصحابيات وخير النساء وخير العالمات، ولكني أذكر مثلاً ممن تربى في حجر عبد الله بن عباس وفي حجر أنس بن مالك، وهو أبو قلابة الجرمي عبد الله بن زيد البصري رحمه الله تعالى، يقول عنه ابن عباس: لو كان هذا في الصحابة لكان علماً، وقال: لو رآه النبي عليه الصلاة والسلام لأحبه وقربه.
أخرج ابن حبان في كتابه الثقات في أول الجزء الخامس في ترجمة عبد الله بن زيد الجرمي أبي قلابة البصري من طريق الأوزاعي قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: بينما نحن مرابطون ذات يوم -أي: في ثغر من ثغور الجهاد- إذا نزلت وادياً وبهذا الوادي خيمة فدخلتها وإذا فيها رجل قد فقد يداه ورجلاه وثقل سمعه وبصره، ولم يكن له من جوارحه إلا لسانه، فسمعته يقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به نعمك علي، وأن أشكرك على ما تفضلت به علي وفضلتني على كثير