يتجلى هذا في مقدم النبي عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة، لما سمع بمقدمه حبر من أحبار اليهود اسمه عبد الله بن سلام جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال:(يا محمد! إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي، قال: يا ابن سلام سل عما بدا لك -والحديث في البخاري من طريق أنس بن مالك - قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما طعام أهل الجنة؟ وكيف ينزع الولد؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، قال: صدقت، قال: وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، قال: صدقت، قال: إذا اجتمع الرجل والمرأة -أي: في الجماع- فعلا ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إليه، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل نزع الولد إليها.
قال: صدقت، وإنك لنبي، وإني لأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله -هذه شهادة حبر من أحبار اليهود- ثم قال عبد الله بن سلام: يا رسول الله! ادع اليهود فسلهم عني قبل أن تخبرهم بإسلامي، فإنك إن تخبرهم بإسلامي يبهتوني، فإنهم قوم بهت، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام اليهود وقال: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحبرنا وابن حبرنا، وعالمنا وابن عالمنا، فخرج عليهم عبد الله بن سلام من خلف الستار فقال: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا، وحقيرنا وابن حقيرنا، وسبوه وتنقصوه -هكذا هم اليهود، ويهود اليوم شر من يهود الأمس- قال النبي عليه الصلاة والسلام: يا ابن سلام! إن الذي سألتني عنه لم يكن لي به علم غير أن جبريل نزل علي آنفاً فأخبرني به، قال: إن الذي ينزل عليك يا رسول الله هو جبريل؟ قال: نعم، قال: ذاك عدو اليهود من الملائكة -تصوروا أن اليهود يعادون الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون، ومع هذا اتخذهم اليهود أعداء- فقال النبي عليه الصلاة والسلام:{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}[البقرة:٩٧ - ٩٨]).
عمر رضي الله عنه كانت له أرض في عوالي المدينة عند بني النضير وبني قينقاع، وكان يذهب إليها ليباشر العمل فيها، وكان اليهود يطمعون في عمر رضي الله عنه، أي: في ردته إلى الكفر على الأقل، حتى وإن لم يدخل في دين اليهود؛ لأن اليهود من عنجهيتهم وصلفهم وغرورهم لا يريدون من أحد أن يدخل في دينهم، إنما يريدون زعزعة الإيمان، وخروج أهل الإيمان من إيمانهم ودخولهم في الكفر العام لا في اليهودية؛ لأنهم يأبون أن يدخل مسلم في دينهم.
انظروا إلى هذا الصلف وهذا الغرور، يدخل في النصرانية، في الدرزية، في الديمقراطية، في الماسونية، في الشيوعية، في أي ملة من ملل الكفر، لكنه لا يدخل في ملة اليهود، هكذا يريد اليهود، وهم يحاولون بالليل والنهار إخراج الموحدين من توحيدهم ومن دينهم الحق إلى أي ملة من ملل الباطل.
فلما طمع اليهود في عمر رضي الله عنه قالوا: يا عمر إنك لتعلم أنك أحب أصحاب صاحبك إلينا، قال: وبم ذاك؟ يعني: ما سر هذا الحب، فلم يعيروه جواباً.
ثم قالوا: وإنا لنتبعك بشرط أن تخبرنا من ينزل على صاحبك؟ قال: أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن، قال: والرحمن إن الذي ينزل عليه لجبريل، قالوا: أما علمت يا عمر أن ذاك عدونا من الملائكة؟ قال: إن الذي يعادي جبريل يعادي ميكائيل، قالوا: لا، بل ميكائيل ولينا، إنما عدونا جبريل، وهكذا فرق اليهود في إيمانهم بالملائكة على فرض أنهم قد آمنوا بميكائيل واتخذوه ولياً، وهم كذبة وغششة وخونة في مثل هذا القول كذلك، بل هم قد كفروا بجميع الملائكة لا يستثنون من ذلك واحداً، والآيات والأحاديث شاهدة على موقف اليهود.
وحجتهم في ذلك: أن جبريل إنما هو رسول الغلظة والشدة والفظاظة، بخلاف ميكائيل فإنه رسول الرحمة واللطف واليسر والتبشير وعدم التنفير، هكذا يقولون، وإن شئت فقل: هكذا يصفون ملائكة الله عز وجل.
وعند مسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه قال (دخل حبر من أحبار اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا محمد، قال ثوبان: فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقام الحبر وقال: يا ثوبان لم دفعتني؟ قال: قلت: ألا تقول: السلام عليك يا رسول الله؟ قال الحبر: إنما سميته باسمه الذي سماه به أهله)، وهل يليق بكل أحد أن ينادى باسمه؟! أأنت تنادي أباك باسمه، أو أمك باسمها، أو الحاكم باسمه، أو القائد باسمه، أو