[حقيقة الفقر وما ينبغي على الفقير التحلي به من الآداب]
ليعلم أن الفقر محمود وممدوح وليس مذموماً، ولكن ينبغي للفقير أن يكون قانعاً، وهذه مسألة مهمة ومطلوبة جداً، فيقنع بما قسم الله له، ولا يتطلع ولا ينظر إلى من فوقه، بل كلما ازداد فقراً فلا بد وأن يكون في الخلق من هو أشد منه فقراً، فلو جاع أسبوعاً ولم يجد قوتاً فليعلم أن هناك من يجلس بلا طعام أكثر من ذلك، ولا يتصور أنه أفقر الخلق.
فينبغي للفقير أن يكون قانعاً، منقطع الطمع عن الخلق، غير ملتفت إلى ما في أيديهم، ولا حريصاً على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا أن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس.
وقد جاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أفلح من أسلم، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه)، أي: عنده قوت يومه وهو قانع حامد.
ولذلك اختلف العلماء اختلافاً كبيراً جداً في أيهما أفضل الغني الشاكر الذي يؤدي حق الله في ماله، أو الفقير الصابر على فقره؟ وخلاف أهل العلم أيهما أفضل، يدل على فضيلة الفقير الذي صبر وقنع بما آتاه الله.
وقال سليمان بن داود عليهما السلام: (قد جربنا العيش كله)، أي: خيره وشره، وغناه وفقره، وضيقه وسعته.
قال: (فوجدناه يكفي منه أدناه)، أي: أقل شيء في الدنيا يكفي؛ لأنك لا تأخذ إلا قدر حاجتك، والباقي تدعه إرثاً.
وقال أبو حاتم: ثلاث من كن فيه كمل عقله، وكان عاقلاً حقاً، من عرف نفسه -أي: من عرف قدر نفسه، فمهما عظمه الناس وشرفوه، ورفعوه فوق الرءوس فهو يعرف قدر نفسه، وأنه أقل من ذلك، فيتعامل مع الله ومع الخلق ومع نفسه على بصيرة من أن قدره أقل مما وضعه فيه الناس- وحفظ لسانه عن إيذاء الخلق، وقنع بما رزقه الله عز وجل.
فمن كانت فيه هذه الصفات فهو العاقل حقاً.
وقال بعض الحكماء: أنت أخو العز ما التحفت بالقناعة.
فكلما كنت قنوعاً فأنت عزيز.
أما الحرص فقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا أيها الناس! أجملوا في الطلب؛ فإنه ليس للعبد إلا ما كتب له).
فمهما سعيت في تحصيل الرزق أو إطالة الأجل فلن يكون إلا ما كتب لك قبل أن تولد.
وفي الحديث عن ابن مسعود: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك)، و (٣×٤٠=١٢٠).
قال: (ثم يرسل إليه ملك الأرحام، ويؤمر بكتب أربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعي) فرزقك مقسوم لك، وحياتك مقسومة لك.
وفي الحديث عند الحاكم وابن حبان وغيرهما بسند صحيح: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن روح القدس نفث في روعي وقال: يا محمد! اعلم أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته).
فقد ذكر الحديث شيئين يخاف الناس عليهما، وهما: العمر، والرزق، مع أن العمر مقسوم، والحرص عليه لا يقدم ولا يؤخر شيئاً، والرزق مقسوم، ولن يقدم الإنسان أو يؤخر منه شيئاً، فالمطلوب أن يسعى الإنسان سعياً حلالاً، فهو لن يأخذ إلا ما قسم له، فلماذا يحرص المرء على جمع المال الزائد من غير حله ويضعه في غير حله؟! وقد قيل: لو قيل للطمع: من أبوك؟ لقال: الشك في المقدور.
أي: الشك فيما قدره الله تعالى وقسمه لي.
ولو قيل له: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذل.
فالذي يحرص على جمع المال لا بد أن يكون ذليلاً لأصحاب المال.
ولو قيل له: ما غايتك؟ لقال: الحرمان.
فلو أنه وقع على صاحب مال لذل له؛ حتى يحصل على المال ولو كان قليلاً، والكل يمنع عنه المال، فهو يسأل الناس جميعاً، فهذا يعطيه وذاك لا يعطيه، حتى يألف السؤال والذل.
والمتسول هو أذل الناس، مع أنه لا يعتقد أنه ذليل، ولا يتصور أنه ذليل، وربما تصور هذا وشعر به في أول حياته التسولية، ولكن مع كثرة السؤال واستدامة الذل والصغار عند الخلق يألف ذلك، حتى تكون حياته كلها ذلة وصغار.