[النهي عن كثرة السؤال والتعنت فيه]
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي أخرجه الشيخان: (إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال)، أي: الكلام في القيل والقال، في النافع والضار، كلاماً ليس من هدي النبوة، وقيل: ذلك هو الغيبة والنميمة.
قوله: (وكثرة السؤال)، أي: فيما لا يعني ولا يفيد، أما إذا كان في أمر الدين فالعبد مأمور بذلك، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:٤٣].
وعن سهل بن سعد قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها)، أي: المسائل التي لا قيمة لها.
وعن عبدة بن أبي لبابة قال: وددت أني أحضا في أهل هذا الزمان ألا أسألهم عن شيء ولا يسألونني عن شيء، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم.
يعني: أن الواحد دائماً كلما يقابلك يخرج لك عريضة من جيبه تحتوي على خمسين سؤالاً، ثم يقول لك: انتظر يا شيخ حتى أسألك هذه الأسئلة! وهل تظن أن الشيخ له وقت حتى يجيبك على هذه الأسئلة؟ وربما السؤال الواحد منها يحتاج إلى مجلد كما أجاب ابن القيم عن سؤال واحد، لذا فهذا أمر لا يصح.
وعن الحجاج بن عامر الثمالي رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم وكثرة السؤال).
وسئل مالك عن قوله تعالى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:١٠١].
فقال: لا أدري أهو هذا، أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء.
وقال ابن عمر يروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أعظم المسلمين للمسلمين جرماً)، أي: أعظم واحد مجرم في المسلمين: (من سأل عن شيء لم يحرم فحرمت لأجل مسألته)، فهذا أكثر واحد أضر بالأمة كلها، ويظل ماسكاً بالنبي عليه الصلاة والسلام ليسأله، والنبي يعرض عنه إلى الجهة الأخرى، فيأتي له من الناحية الأخرى، ويسأل نفس السؤال، والنبي يبعد وجهه إلى ناحية أخرى، ويظل يتابعه ويلاحقه حتى يقول: حرام، أي: حرام على الأمة كلها، لذا كان أعظم المسلمين جرماً في حق المسلمين من سأل عن شيء لم يحرم فحرم لأجل مسألته، أي: لسبب مسألته.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)؛ لأن النهي في مقدور كل إنسان، (وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم).
وقال عمر رضي الله عنه وهو على المنبر: أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن، فإن الله عز وجل قد بين ما هو كائن.
وقال عمر رضي الله عنه أيضاً: إنه لا يحل لأحد أن يسأل عما لم يكن، فإن الله تبارك وتعالى قد قضى فيما هو كائن.
ولذلك كان العلماء يكرهون جداً الافتراضات، وعابوا على أصحاب الرأي آراءهم، وذلك أنهم كانوا يسألون عن أشياء لم تقع بعد، فيفترضون مسائل لم تقع، ويقولون: يا شيخ! افرض لو كان كذا، وكل هذا ليس من هدي السلف، وإنما هدي السلف أنهم كانوا دائماً إذا سئلوا في مسألة قالوا: آلله أثم هي؟ أي: هل وقعت هذه المسألة أم لا؟ فإذا قيل: وقعت أجابوا عنها وتكلموا فيها، وإذا قيل: لم تقع بعد قالوا: أجمونا عنها، يعني: اجعلونا منها في استجمام وأبعدونا عنها ولا تكلفونا جواباً، فإذا وقعت أعاننا الله عليها.
وهذا الكلام ورد عن كثير من سلف هذه الأمة، فقد كانوا إذا سئلوا في المسألة قالوا: أوقعت هذه المسألة أم أنها مجرد فرض؟ فإن وقعت أجابوا عنها، وإن لم تقع لم يجيبوا عنها، بل يسكتون ويقولون: اجعلونا منها في استجمام.
وقال حماد بن زيد: قيل لـ أيوب: ما لك لا تنظر في الرأي؟ والأمر كما قال الشافعي: الرأي ليل والحديث نهار، والسلف وعلماء الأمة يعتقدون -وهو الاعتقاد الحق- أن الدين قال الله قال الرسول، أما أن يكون عندي النص أو كلام الله وكلام الرسول، ثم أقول: أنا أرى كذا وكذا! فهذا لا يصدر إلا عن جاهل، وعن إنسان يصدر في فتاواه عن رأيه الشخصي، وهذا لا يصح، ولذلك قال الشافعي كما ذكرنا: الرأي ليل والحديث نهار، أي: أن الحديث كالنهار في وضوحه وضوئه ونوره وهداه، والليل مظلم؛ لأنه لا يعتمد على النص، ولذلك قيل لـ أيوب: ما لك لا تنظر في الرأي؟ لم لا تقول بالرأي؟ قال أيوب: قيل للحمار: ما لك لا تجتر؟ قال: أكره مضغ الباطل -يضرب المثل بالحمار- فإذا اجتر فإنما يمضغ الهواء، ولا يغني عنه مضغ الهواء، ثم قال: وكذلك صاحب الرأي مهما تشدق بالرأي فإنه لا يغني عنه من الحق شيئاً، فهو ضرب المثل بهذا.
وقال ابن وهب: قال لي مالك وهو ينكر كثرة المسائل ويعيبها: يا عبد الله! (ما علمته فقل به ودل عليه) أي: ما علمته من أدلته الشرعية فقل به ودل