[المرحلة الثالثة من مراحل حياة عمرو بن العاص: مرحلة الإمارة والولاية والفتوح والفتن]
قال عمرو بن العاص في المرحلة الثالثة: (ثم ولينا أشياء) أي: من الإمارة والفتوح، أو الفتن التي وقعت في زمن الصحابة رضي الله عنهم، ولا يدري أمحسن هو فيها أم مسيء؟ أمخطئ فيها أم مصيب؟ قال: (ولا ندري ماذا يصنع بنا؟ قال: فإذا أنا مت فلا تتبعني نائحة ولا نار).
أما النار فهي من شعار أهل الجاهلية، كانوا يفتخرون بذلك إذا مات لهم ميت يتبعونه بنار، وإن كان ذلك في رابعة النهار، فنهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمرو بن العاص: ولا تتبعني نائحة، وهي التي تنوح وتضرب بالصوت خلف الميت.
وفي صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يدعونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والأنواء -أن يقال: مطرنا بنوء كذا- والنياحة، وإن النائحة إذا لم تتب قبل يوم القيامة أقيمت وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب).
والأمة الآن تستأجر النائحات، وجعلت النياحة باباً من أبواب الكرم والضيافة، ترى المرأة إذا أتت لبيت الميت تأتي وهي تضحك وتلعب وتلهو في طريقها، فإذا ما اقتربت من بيت الميت ناحت على الميت وندبت، وفعلت ما كان من أمر الجاهلية، ثم إذا انطلقت راجعة إلى بيت أهلها رجعت بغير تأثر ولا حزن قلبي؛ لأنها مستأجرة، ولذلك قال العرب: ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.
المكلومة المجروحة هي صاحبة الهم حقيقة، أما من أتت لتساعد هذه المرأة، أو لتكرمها أو لترد لها الواجب إذا حل بها ما قد حل بأختها، فإن هذا ليس من دين الله، بل هو كبيرة من الكبائر إذا لم تتب النائحة، وما أكثر النائحات في هذا الزمان، ثم في يوم القيامة تُلبس سربالاً من قطران، ويكون عليها درع من جرب، أي عقوبة بعد هذا؟ ثم قال عمرو بن العاص: (فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً).
أي: أهيلوا علي التراب، وصبوا علي التراب صباً، وهذه سنة كما قال عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا، والشق لغيرنا).
حتى في القبر ميز النبي عليه الصلاة والسلام بين قبر المسلم وقبر الكافر، فجعل لأهل الإسلام اللحد، وجعل لغيرهم الشق؛ لأنه من عادتهم.
ثم قال: (وامكثوا عند قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمه)، أي: وقتاً يتسع لذبح بعير وتقسيم لحمه.
والناس الآن إذا ألقوا الميت في القبر انطلقوا مسرعين كما ينطلقون من بيوت الله بعد صلاة الجمعة، وقبل أن يقرءوا الأذكار، ينطلقون من مواطن العبادة، ومواطن الرحمات والمغفرة، كما لو كان الصحابة رضي الله عنهم في بيوت المعصية، الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفرون من مواطن الشهوات فرارنا نحن من دور العبادات، ومواطن المغفرات والرحمات، ولذلك شتان ما بيننا وبين سالف هذه الأمة، وإن الأمة لا ترجع إلى عزها وشرفها وسيادتها إلا إذا رجعت إلى ما كانت عليه أولاً، كما قال مالك وغيره: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
أي: إلا بما كان عليه سلفها.
قال: (وامكثوا عند قبري مقدار ما ينحر جزور ويقسم لحمه).
وهذا المكث ينشغل كل واحد ممن شيع الجنازة بالدعاء للميت بالتثبيت، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لما دفن جعفر بن أبي طالب: (ادعوا لأخيكم فإنه الآن يسأل) ولم يدع عليه الصلاة والسلام ليؤمن أصحابه، ولو كان ذاك مشروعاً لكان أولى الناس بالدعاء، وهو الدعاء المجاب يقيناً منه عليه الصلاة والسلام، ولكنه عليه الصلاة والسلام إنما أمر أصحابه أن يدعو كل واحد بما تيسر له، بطريقته الخاصة، يدعو حتى لا يحرمهم من الدعاء، وربما أصابت دعوة ووافقت إخلاصاً في قلب الداعي انتفع بها الميت، وثبت حين السؤال.
أما ما يفعله الناس اليوم من إقامة من يدعو وهم يؤمنون فهذا مخالف للسنة، ولا يلزم أن يكون في كل تشييع جنازة موعظة يسيرة يذكر الناس بخطورة هذا الموقف، وأن الكل قادم عليه لا محالة، حتى يذكروا العصاة، وما أكثر ما يشيع العصاة الجنائز من باب أداء الواجب! فربما أصابت الموعظة قلب واحد أو أكثر فرجع وتاب إلى الله عز وجل وقام وصلى.
لو أن واحداً الآن نصلي عليه بعد الجمعة لوجدت أن أولياءه وأقرباءه وجيرانه يقفون خارج المسجد لا يصلون الجمعة، ومن باب أولى فإنهم لا يصلون عليهم جنازة، (أفندية) لا دين لهم، ولا خلق لهم، وهم أحوج الناس إلى مثل هذه الصلاة إذا ماتوا، ولا يدرون أنه من جنس عملهم يسلط عليهم، ويكون لهم بشرى، فإذا قدموا طاعة وصلوا على الميت أجرى الله تبارك وتعالى وطوع لهم قلوب العباد ليصلوا عليهم إذا ماتوا، وإذا كان هذا موقفهم، فلا يبعد أن يصرف الله تعالى قلوب العباد عن الصلاة عليهم، وأنتم تعلمون أن الميت ينتفع بصلاة الموحدين.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ما من ميت يصلي عليه أربعون لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعوا فيه).
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما من أمة تبلغ مائة يصلون على ميت إلا كانوا له شفعاء يوم القيامة).
قال